فصل: كتاب الرَّضَاعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الرَّضَاعِ:

9990- حرمة الرِّضاع ثابتة بنص القرآن والسنة المتلقاة بقبول الأمة، وهي من الأصول المجمع عليها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، ثم ذهب طائفة من ضَعَفة الفقهاء إلى أن أصول المحرمات مستفادة من نص الكتاب تنصيصاً وتنبيهاً؛ فإنه تعالى نصّ على تحريم الأمهات، والتحريم المضاف إلى الأصول شملها والفروعَ، فكان ذلك ظاهراً من طريق النص والفحوى على تحريم الأصول والفروع، ثم نص على تحريم الأخوات، فدل على أن ما يقع على جانب الأصول والفصول يضاهي في الحرمة النسَب.
وهذا ليس مما يعتد به.
أما تحريم الأمهات والمرتضعين منهن، فمنصوص عليه، وكذلك تحريم الأخوات، ومن زعم أن الكتاب مستقلٌّ بالدلالة على تعميم التحريم في قواعد الرضاع، فليس على بصيرة في النظر في الصيغ وما يتلقى منها، وإن كان ما ذكره هؤلاء إشارة إلى تمهيد طريق القياس، فليس القياس من فوائد الألفاظ، وليست الألفاظ مرشدةً إليه، ولا دالةً عليه، وإنما يتلقى العمل بالقياس من الإجماع، كما تقرره الأصول.
على أنا لو رُددنا إلى القياس، لم نتوسع فيه في أصول الرضاع، فإن اقتضاء الرضاع الحرمةَ والمحرميةَ ليس مما يستدّ فيه قياسٌ معنوي أو شبهي، فلا وجه إلا القطعَ بأن الكتاب تضمّن تبيينَ أصولٍ من الرضاع، ولم يجر تخصيصه إياها على صيغةٍ تتضمن نفيَ ما عداها، فمضمون الكتاب استفتاحُ الكلام في الرضاع، واستتمامه متلقّىً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وهذا من جوامع الكلم؛ فإنه شامل لقواعد حرمة الرضاع، لا يغادر منها شيئاًً ولا يتطرق إليه تأويل، ولا مثنوية، ولا حاجة فيه إلى تتمةٍ بتصرف قائس.
9991- ثم لما نظر الشافعي إلى مضمون الكتاب والنصِّ الشامل الكامل المنقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يعقب هذا الترتيبَ بالتصريح بإثبات الحرمةِ في جانب الفحلِ؛ فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» مستقل بإفادة التحريم في جميع القواعد.
والذي يكاد يُردّ عنه نظرُ الناظر الحرمةُ في جانب الفحل وانتشارُها؛ من جهة أن اللبن ينفصل عن الأم، فذكر الشافعي على الاتصال بتمهيد القواعد لبنَ الفحل، توطئةً لأصل الكتاب، ثم عقد في لبن الفحل باباً من بعدُ، والحرمة تثبت في جانب الفحل، وتنتشر على مذاهب جماهير العلماء.
والشاهد لذلك حديث خاصّ ناصٌّ يعضد موجَبَ العموم من قوله عليه السلام:
«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وهو ما روي أن أفلح بن أبي القُعَيْس، وفي بعض الروايات أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن على عائشةَ، فاحتجبت منه فقال: تَحَجَّبين مني؟ أنا عمك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك زوجة أخي بلبان أخي، فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، ثم راجعت عائشة رسول الله فقال عليه السلام: «إنه عمك تربت يمينك، فليلج عليك».
وسئل ابن عباس عن رجل له زوجتان أرضعت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، هل تحرم المناكحة بينهما، فقال: «اللقاح واحد» وأراد رضي الله عنه بذلك انتسابَ ألبان الزوجتين إلى الزوج الواحد، وذلك يقتضي الأخوةَ من جهة الأب.
ونقل نقلةُ المذاهب عن عبد الله بنِ عمرو، وعبد الله بنِ الزبير، وعائشةَ أنهم كانوا لا يثبتون الحرمةَ وانتشارَها في جانب الفحل، ثم لم يصحح الأئمةُ الخلاف عن عائشةَ لصحة الحديث المنقول عنها.
وذهب إلى نفي حرمة الفحل الأصم وعلقمةُ وإسماعيلُ بن عُليّة.
وهذا المذهب لا عمل به ولا صائرَ إليه، والقول فيه يتصل بما ينعقد الإجماع فيه مسبوقاً بالخلاف.
9992- ثم إن المزني أتى بقواعد الرضاع مبددة، ونحن لا نؤثر مخالفةَ ترتيبه، ولا نرى الانحدار عن صَدْر الكتاب من غير تقعيد وتمهيد، يَطّلع به الناظرُ على معظم المقاصد.
وترتيبُ الشافعي أولى متبع، وقد تشوّف إلى استيعاب التمهيد؛ إذ ذكر أصول الحرمات، وتعرض للبن الفحل، فنقول: لحرمة الرضاع أصول وفروع، فالأصول ثلاثة أشخاص: المرأة المرضعة، والصبي المرتضع، والرجل الذي أدرّ لبنَ المرأة على الولد المنتسبِ إليه، وهو المسمى الفحلَ في هذا الكتاب، والمرتضع بحكم الرضاع ولدٌ، والمرضعة أمٌّ، والرجل الذي وصفناه أبٌ، فهؤلاء أصول الحرمات.
ثم الحرمات لا تقتصر على الأصول، بل تنتشر منها، وقد يتمحضُ الانتشارُ في جهةِ الرضاع، وقد يُمزَج النسبُ بها، فليعتقد الفقيهُ أن المرتَضِعَ في منزلة الولد في الحرمة والمحرميّة، ثم تنتظم الحرمةُ بينه وبين من تعتزي الأم إليه على حسب انتظامها بين الولد وبين المنتسبين إلى أم الولادة، فيحرم المرتضعُ على أمهات المرضعة، وآبائها، وأخواتها، وأخواتهم؛ فإنهم يقعون منه على مراتبِ الأخوالِ والخالاتِ.
ولا تثبت الحرمة بين المرتضع وبين بني إخوة المرضعة وبني إخوتهم، فإنهم يقعون من المرتضع في مرتبة بني الأخوال، وأولاد الخالات، وهم لا يحرمون في النسب.
وحرمة الرضاع في انتشارها لا تُبِرّ على جهة النسب. وهذا النسق بين المرتضع وبين أب الرضاع، والمنتسبين إلى أب الرضاع، أو المتصلين به بجهة الرضاعة على حسب ما ذكرناه في المرضعة.
هذا بيان أصل الانتشار من المرضعة، وأب الرضاع.
9993- وأما انتشار الحرمة من جانب المرتضع، فكل من يحرم المرتضعُ عليه، فيحرم أولادهُ عليه، وإن تَسفّلوا.
ولا انتشار للحرمة في جانبه إلا إلى أولاده، فلو كان للمرتضع أخ من نسب أو رضاع، فإنه لا يحرم على المرضعة.
فإن قيل: ألستم ادّعيتم استقلال قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الشمول والترقي عن التأويل؛ إذ قال عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» قلنا: أجل هو كذلك؛ فإن قيل: أخ الابن وأخته يحرمان على الأب إذا كان الابن المسؤول عنه نسيباً؟ قلنا: ليس هذا من تحريم النسب، ولكن الرجل إذا كان له ابن نسيب، فأخوه ابنه أو ربيبه، فيتأتَّى التحريم من الصهر، وليس من ضرورة بنوة الرضاع اتصال صهرٍ بها، ومقتضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما يحرّمه النسب يحرمه الرضاع، وهذا مستمر لا قصور فيه ولا استثناء فيه.
9994- وإن بسطنا القول في انتشار الحرمة، عُدنا وقلنا: المرضعةُ أم، وأبوها جد، وأمها جدة، وأخوها خال، وأختها خالة، وأولادها إخوة، وأعمامها وأخوالها وعماتها وخالاتها كالأعمام والعمات والأخوال والخالات الأَدْنين، وعلى هذا الوجه تنتظم حرمة النسب.
وهذا القول بعينه يجري في أب الرضاع، وأولادُ المرتضع، وأحفادُه، وإن تسفّلوا بمثابة الأولاد، وإخوته وأخواته لا يحرمون؛ فإن النسب لا يحرمهم أيضاًً، وأبوه لا يحرم، فإن أب الابن زوج الأم.
وقال قائلون: انتشار حرمة الرضاعة كانتشار حرمة النسب إلا أن أخت الابن النسيب محرمة، لأنها بنت الأب إن كانت أختاً من الأب، أو بنت أم الابن، فتقع ربيبةً للأب، وأختُ المرتضع لا تحرم على أب الرضاع؛ لأنه لا يلزم أن تكون مرتضعة أيضاً، ولا يلزم أن تكون ربيبة، وأم أم ابن النسيب محرّمة؛ لأنها صهره، وأم أم المرتضع لا تحرم؛ لأنه لا يلزم أن تكون صهره، فلا استثناء إذاً إلا من جهة الصهر، كما ذكرناه.
9995- وإذا وضح الغرض على البسط، فنجمع قولاً وجيزاً يحوي القواعد، ولا يشَذُّ منه في أصل الحرمة أصلٌ، فنقول: الأصول ثلاثة كما ذكرنا: الأب، والأم، والمرتضع، ثم كل من يحرم على الأب من النسب والرضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني الإخوة والأخوات؛ فإنهم محرمون عليه، وهم يقعون من المرتضع أولاد الأعمام والعمات.
ونقول في المرضعة هي محرمة لأمومة الرضاع، وكل من يحرم عليها بنسب أو رضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني إخوتها وأخواتها، كما ذكرناه في الأب؛ فإنهم يقعون من المرتضع أولاد الأخوال والخالات.
وأما المرتضع في نفسه، فيحرم أولادُه من النسب والرضاع، كما يحرم هو، ولا يحرم إلا أولادُه وأحفاده.
فهذا هو الضابط الجامع.
9996- ومما يوصَى الطالب به ألا يُغفل التفاف الرضاع بالنسب، ويجري الكلام مجرى واحداً، ونحن نضرب في ذلك مثالاً، فنقول: أمّك من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعك-يعني الفحل- أو ولدت من أرضعتك، أو ولدت من أرضعك، أو أرضعت من ولدتك، أو أرضعت من ولدك وليعتبر الناظر التفافَ الرضاع والنسب بهذه المرتبة.
ولا مزيد على ما ذكرناه نحن في عقد الجُمل.
9997- ولما ذكر صاحب التلخيص تشبيه الرضاع بالنسب، وأراد الاستثناء-فإن مجموعه مقصور على الاستثناء- استثنى ما لا حاجة إليه، وقال: الرضاع كالنسب إلا في الميراث، والولاية، وأخذ يعدد ما لا حاجة إليه.
والقول الكامل فيه أن الرضاع لا يضاهي النسب إلا في الحرمة والمحرمية، قال الأئمة: الأمهاتُ ثلات: أم النسب، وهي ذات محرمية رحم، ويجتمع فيها الحرمة والمحرمية، وأم الرضاع، ولها المحرمية والحرمة، والأم الثالثة هي التي خلفت رسول الله بالزوجية قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وكان أمر الحرمة على الأبد، ولا محرمية، وقد انعقد ما أردنا عقده، ونعود بعده إلى ترتيب (السواد).
فصل:
قال: "والرضاع اسم جامع يقع على المصّة والمصتين... إلى آخره".
9998- أبان الشافعي رضي الله عنه أن اسم الرضاع ينطلق على المصة والمصتين فصاعداً، وهو اسم جنس يجمع الواحد والجمع، وأراد بذلك أنه لو لم يرد في صحيح الأخبار ما يدلّ على اشتراط العدد في الرضعات، لأثبتنا الحرمة باسم الرضاع، ولكن صح أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا برَضَعات، وأبو حنيفة لم يرع العدد وأثبت الحرمة بما ينطلق عليه اسمُ الرضاع.
والأخبارُ الواردة في العَدَد كثيرة، منها ما رواه ابن الزبير عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا تحرّم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان» وروت أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان» فثبت أصل العدد، ثم رأى الشافعي أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا بخمس رضعات، واعتمد في ذلك حديث عائشة، وهو مشهور مدون في الصحاح.
وذهب ابن أبي ليلى وداود، وغيرهما إلى أن حرمة الرضاع تثبت بثلاث رضعات، واعتمدوا في ذلك حديثَ ابن الزبير وأمِّ الفضل، قال المزني: أسمِع ابنُ الزبير رسول الله؛ فقال رضي الله عنه: سمعه وهو ابن تسع، وقال أئمة الحديث مات رسول الله وهو ابن تسع، فلعل الشافعيَّ أراد آخر ما سمعه في آخر العهد، ولا شك أنه ولد بعد الهجرة بسنة، فإنه لما قدم رسول الله عليه المدينة مهاجراً زعمت اليهود أنهم سَحَروا المسلمين؛ فلا يولد لهم ذكر، وانقضت سنة، ولم يولد للمسلمين ذكر، وأول مولود من الغلمان ابنُ الزبير، بعد انقضاء سنة، ولما وُلد، كبّر المسلمون.
وقيل: كَبَّرَ أصحاب الحجاج يوم صلب ابن الزبير، فقالت أسماء أم ابن الزبير ذاتُ النطاقين: المكبرون عليك يوم ولدت خير من المكبرين عليك يوم قتلت.
فقد اعتمد قوم حديثَ ابن الزبير في نفي الحرمة عن المصة والمصتين، وبَنْوا إثبات الحرمة على المفهوم، فإن التخصيص بالأقدار يقتضي مخالفةَ الحكم للمقدّر المنصوص عليه.
9999- واعتمد الشافعي الحديث الناص على الخمس، قالت عائشة: "أنزلت عشرُ رضعات يحرِّمن فنسخن بخمسٍ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتلى من القرآن".
وهذا قد يعترض فيه إشكال، فإن الحديث، وإن كان مدوّناً في كل صحيح، فمضمونه أن الرضعات الخمس كانت ضمن آيةٍ تتلى من القرآن، ونحن لا نراها بين الدفتين، فلعها أرادت أنها كانت تتلى حُكماً. والقول في ذلك يطول، وليس من الحزم الزيادة على المعنى المطلوب في كل فنّ.
وحمل الشافعي حديث المصة والمصتين على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال مخصوص، وواقعة سئل فيها عن المصتين، فخرج جوابُه على وَفْق السؤال، وهذا يعضده ما روي عن صعصعة بن صُوحان أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحرم الرضعة والرضعتان؟ فقال عليه السلام: «لا تحرم الرضعة والرضعتان». وصح من مذهب عائشة اعتبارُ خمسِ رضعات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سالم: «أرضعيه خمساً يحرم عليك»، كما سنصفه بعد هذا إن شاء الله. فهذا القدر كافٍ في تأسيس المذهب.
وموضع استقصائه مسائل الخلاف.
10000- وأول ما نبتديه بعد ذلك أن الرجوع في أعداد الرضعات إلى حكم العرف، ولا نظر فيه إلى مقدار اللبن يقل أو يكثر، والمعتبر في ذلك من طريق التمثيل الأكلاتُ في موجَب البِرّ والحِنث في الأَيْمان، والرجل إذا تعاطى لقمة واحدة وأكلها، ثم انكف، فالذي صدر منه أكلة، ولو نُصبت المائدة بين يديه والألوان تختلف وتأتي على الوِلاء المعتاد في الأكلة الواحدة، فهذا وإن كثر أكلةٌ واحدة، كذلك المصّة الواحدة إذا تحقق وصول شيء من اللبن بها إلى الجوف، ثم فرض الاقتصار عليها رضعةٌ واحدةٌ.
ولو التقم الصبي الثدي واستكثر من الارتضاع، وتطاول الزمن على التواصل المعتاد، فهو رضعة واحدة، ولو كان الصبي في أثناء الارتضاع يلفظ الثدي، ويلهو ثم يعود في زمنٍ لا يقطع اعتبارَ التواصل، فكل ما يجري رضعة، ولو استنفد ما في أحد الثديين، فنقلته المرضع إلى الثدي الآخر، فهذا ليس رضعة جديدة، بل كل ما يعد نوبة في الإرضاع، فهو رضعة.
والقول في ذلك ظاهر غير مُحوجٍ إلى طلب مسلك في التقريب يُعتاد؛ فإن العادة بيّنة فيما يعد نوبة من الرضاع، وإنما تنقطع النوبة بزمان يتخلل قاطعٍ للتواصل، وقد يؤثِّر عندنا في ذلك المقصود؛ فإن الأم إذا أرضعت وانصرفت، فلم يطل الزمان فاستعبر الصبي أو نابه ما يقتضي تسكينَه، فلو عادت إليه وأرضعته، فهذا يعد رضعة ثانية، وإن كانت لو أدامت الإكباب على الإرضاع، لكان لا يبعد تخلل مثل هذا الزمان مع العود إلى الرضعة الأولى، وهذا لا ينكره من يهتم بدرك المعارف.
ويتخلل في الأكلة من الزمان ما لا يعتد به، فلو قام الرجل مضرباً، ثم عاد لأمرٍ اقتضى العَوْدَ وافتتح الأكل، عُدّ أكْلة واحدة، فالرجوع إذاً إلى المعارف؛ فإن بانت في الاتحاد والتعدد، جرى الحكم بحسبها.
وإن تردد الرأي بين اتحاد الرضعة وتعددها، تردُّدَ إشكال، لا تردُّدَ اجتهاد، فالأصل الاتحاد، وعدم وقوع الحرمة المنوطة بالعدد، وإن تقابل اجتهادان في اقتضاء الاتحاد والتعدد، ثار الخلاف، وهذا جارٍ في كل ما يتلقى من العرف.
10001- وقد قال العراقيون حكايةً: من أصحابنا من قال: إن الرضاع إنما ينقطع ويتعدد بإضراب الصبي، فلو لم يُضرب وقامت المرأة، ثم عادت وتكرر ذلك مراراً، فالكل رضعة.
وهذا قول سخيف؛ فإن مأخذ الكلام في التعدد والاتحاد الاسمُ، وهو متلقى من العرف، فإذا قامت المرأة، وتخلل زمانٌ قاطع، ثم عادت، عُدّ ذلك رضعتين، فلا معنى للنظر إلى إضراب الصبي، والذي ذكروه على بعده إذا دام تشوُّف الصبي إلى الرضاع في الزمان المتقطع، فأما إذا انقطع تشوفه، فهذا ملتحق بإضرابه. والأصلُ على الجملة فاسد.
10002- ومما يتصل بالعدد في الرضاع ما نصفه، فنقول: تعدد الارتضاع من الثدي على ما وصفناه، وأما إذا احتُلب اللبنُ من الثدي، فتناوله الصبي من الظَّرف، فتفصيل ذلك أنه لو احتلب منها بدُفعة ووصل المحتلَب إلى جوف الصبي بدُفعة، فذلك رضعةٌ، والمعنيّ بالدُّفعة ما وصفناه في الرضعة، فلو كان اللبن المجتمع يوجد على تواصل في الانصباب، فهو دُفعة واحدة، وإن كان يتأتى الاتحاد شيئاًً شيئاًً، فهو دُفعة، فنعتبر في اتحاد الدُّفعة ما نعتبره في اتحاد الأكْلة والشَّرْبَة.
ولو احتلب من المرأة بدُفعة وأوصل اللبنَ المجموعَ بدُفعات خمس، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الرضعات متعددةٌ، نظراً إلى تقطع الوصول وتخلل التواصل، وهذا بمثابة ما لو فرض هذا التعدد في الارتضاع من الثدي. والقول الثاني- أن الرضعة واحدة؛ فإن اللبن المجموع في الظرف في حكم الشيء الواحد، والنظر إليه، ولا حكم لتعدد تعاطيه وتناوله، وليس ذلك كالارتضاع من الثدي يتجدد حالاً على حال، والأفقهُ القولُ الأول.
ولو احتلب اللبن من الثدي بخمس دفعات، على ما وصفنا التعدد، وجُمع المحلوب في كل دُفعة في ظرف، ثم أوصلت الألبان بدُفعات على أعداد الظروف إلى الصبي، فهذه رضعات؛ فإن التعدد متحقق من الجانبين ولم تختلط الألبان فتُعدَّ شيئاًً واحداً، فيجب القطع بالتعدد.
ولو احتُلب اللبنُ بخَمس دُفعات، وجمعت الدُّفَع في ظرف واحد، فاختلطت، ثم أُوصلت إلى الصبي في خمس دُفعات، ففي هذه الصورة طريقان: من أصحابنا من قطع بحصول العدد؛ لتحقق التعدد في الاختلاط والإيصال إلى جوف الصبي، وليس كما لو احتُلب دُفعة، فأوصل بدُفعات؛ فإن التعدد وجد في أحد الجانبين دون الثاني.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة؛ نظراً إلى اتحاد اللبن المجموع في الظرف، وإذا اتحد وكان لا يتجدد شيئاًً شيئاًً، فهو في حكم الشيء الواحد، فالاعتبار باتحاده في نفسه دون تعدد الحلب.
10003- فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنه إذا اجتمع ثلاثُ خلالٍ: التعددُ في الحلب، وتمييز المحلوبات، والتعدد في التعاطي، قطعنا بثبوت التعدد في الرضعات.
وإن تحقق الاتحاد في هذه الجهات، قطعنا باتحاد الرضعة.
وإن اتحد الحلب، وتعدد التعاطي، فقولان، وإن تعدد الحلب وتعدد التعاطي واتحد اللبن المجموع في الظرف، فطريقان، وإن تعدد الحلب واتحد التعاطي، فالقطع بالاتحاد لا غير.
وحكى العراقيون في هذه الصورة وجهاً بعيداً في أن حكم التعدد يثبت إذا تعدد الاختلاف. وهذا أخرناه حتى لا يُعتَدَّ به، وعلى الفقيه ألاّ يغفل فيما أطلقناه من التعدد عن حقيقة التعدد؛ فإن من احتلب مقداراً ولها قليلاً، ثم استتم، فهذه حلْبة واحدة، وكذلك القول في التعاطي.
فرع:
10004- إذا كان للرجل امرأتان، فأرضعتا مولوداً، وتوالى الإرضاع منهما، بحيث لو فرض ذلك من امرأة واحدة، لكان رضعة واحدة، فالمذهب أن ما صدر منهما رضعتان؛ لتعدد المرضِع، وهو بمثابة تعدد المرتضِع.
وذكر العراقيون وجهاً مزيفاً في أنه لا يثبت حكمُ التعدد مع تواصل الزمان في الإرضاع، ثم قالوا: إذا لم يثبت حكمُ التعدد، لم يثبت الرضاع أصلاً؛ فإن الرضعة الواحدة لا يمكن انقسامها، لتنتسب كل واحدة إلى بعض مرضعة، فالوجه إحباط الرضعة بالكلية، حتى لو صدر منهما ذلك على هذه الصفة مراراً، لم تحصل حرمة الرضاع.
وهذا عندنا في حكم العبث والتلاعب بالفقه وقد نعود إلى طرف من ذلك في مسائلَ تأتي بعد هذا.
فصل:
10005- لما ذكر الشافعي أن الرضاع اسمٌ جامع، وأبان أنا لو خُلِّينا والإطلاقُ فيه، لاستوى فيه القليل والكثير، والواحد والعدد، ولكن ثبت اعتبار العدد بالأخبار.
قال: وكذلك إطلاق الرضاع لا يختص بزمانٍ، ولكن ورد التعبد باختصاص أثره بمدة الرضاع، وتبين لنا أن إرضاع الكبير لا يؤثر، ولا يحرّم.
وقد روي أن سهلة بنت سهيل، قالت: كنا نرى سالماً ولداً؛ وكان يدخل علينا وإنا فُضُلٌ فراجعت رسول الله في أمره، فقال عليه السلام «أرضعيه خمسَ رضعات» ففعلتْ، وكانت تراه ابناً من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال، وكانت ترى إرضاعَ الكبير مثبتاً للحرمة في حق الناس كافة؛ تعلقاً بحديث سهلةَ وسالمٍ، وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدٌ من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به رسول الله إلا رخصةً في سالم وحده.
وروى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديت: هو لسالم خاصة، وفي هذا الأصل تصرّفٌ للشافعي رمز إليه المزني، ولم يستقصه؛ وذلك أن خطاب الرسول عليه السلام إذا اختص بمختصٍّ في حكاية حال، فحكم الصيغة اختصاصُ الحكم بالمخاطب، وإذا قضينا بأن الناس في الشرع شَرَعٌ، حكمنا بأن حُكْمه على معيّن حكمٌ على الناس كافة، فهذا متلقى من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجماع، ومستند اعتقادهم في هذا ما كانوا يشاهدون من قرائن الأحوال في قصد رسول الله التعميمَ.
فإذا اضطرب رأيهم في قصد التخصيص، واللفظُ في نفسه مُختص بالمخاطب، لم يجز تعميمُ الحكم؛ سيّما إذا اعتضد خلافُه بما يستقل دليلاً، وقد قال عز من قائل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} [البقرة: 233]، فأثبت تمامَ الرضاعة في الحولين، فاقتضى مفهومُ الخطاب أن ما بعدهما ليس في حكم الرضاعة؛ إذ ليس بعد التمام أمر معتبرٌ منتظر، ولا يمكن حمل هذا على اعتياد الناس؛ فإنهم على أنحاء مختلفة.
ورأيت في بعض المجموعات حديثاً رواه صاحب الكتاب بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا رضاع إلا في الحولين» فتبين انحصار أثر الرضاع في الحولين واختصاص سالم بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سهلةَ بنتِ سهيل امرأةِ أبي حذيفة.
10006- ولو جرت رضعات فوقع الشك في أنها هل بلغت خمساً أم لا؟ فالحرمة لا تثبت؛ فإن الأصل الحل، وانتفاء الحرمة، وسيأتي هذا من بعدُ.
ولو جرت الرضعات الخمسُ، وأشكل الأمر، فلم ندر أنها وقعت في الحولين، أو بعدهما، أو واحدة منها بعدهما، فهذا يقرب من تقابل الأصلين؛ فإن الرضاع قد قامت صورتهُ وعددهُ، والأصل بقاء المدة، وهذا يعارضه أن الأصل الحِلُّ وعدمُ الحرمة، فأشبه ما لو شك الماسح في انقضاء المدة، فالأمر محمول على انقضائها ردًّا إلى إيجاب غسل الرجلين، كذلك الأصل الحِلُّ.
ولعلنا نأتي بمسائل في الشكوك المتعلقة بأبواب الرضاع.
فصل:
قال: "والوجور كالرضاع... إلى آخره".
10007- مقصود الفصل بيان المحل المعتبر الذي يشترط وصول اللبن إليه، فنقول أولاً: ما لا يُفطر الصائم لا يتعلق به حرمة الرضاع، وقد مضى ذلك في كتاب الصوم مستقصًى، وما يُفطر الصائم من الواصلات إلى الجوف ينقسم: فمنه ما يصل إلى محل التغذية كالمعدة، ومنه ما لا يصل إلى محل التغذية، وإن كان باطناً يتعلق بالوصول إليه الفطرُ.
فأما ما يصل إلى محل التغذية، فيتعلق حرمة الرضاع به.
وما يصل إلى الباطن، ومثله يفطر، وليس محل التغذية، ففي تعلق حرمة الرضاع به قولان، كالحقنة؛ فإنها مفطرة، وإذا حقن الصبيُّ اللبنَ، ففي حصول حرمة الرضاع قولان:
أحدهما: أنها تحصل اعتباراً بالفطر، وأيضاً فالتداوي من الأغراض المقصودة كالتغذي، ولو قيل: الأغذية في معنى الأدوية، والمقصودُ من استعمالها ردُّ الطبيعة المائلة بسَوْرة الجوع إلى الاعتدال، لكان سديداً.
ومن راعى مكانَ التغذية ومَظِنتَها، تشوّف إلى معنى كلي مقصودٍ بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الأنساب امتشجت من وشائج الخلق وأطوار النطف، والألبانُ تؤثر في البنية قريباً من تأثير مواد الزرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم».
10008- وأما السعوط، وهو إيصال اللبن إلى الدماغ، فلأصحابنا فيه طريقان: منهم من أجرى فيه قولي الحقنة مَصيراً إلى أن الدماغ ليس فيه قوة عادية، وإنما يستعمل السعوط تداوياً كالاحتقان، ومنهم من قطع بأن السعوط يُثبت الحرمةَ قولاً واحداً، وإليه ميلُ الأكثرين.
وهؤلاء اعتقدوا إفضاء السعوط إلى التغذية، وهو لعمرنا كذلك، لأن الرأس تشارك فم المعدة، وبينهما عِرْقان لا ينتهي شيء إلى فم المعدة إلا ترقى جزء منه إلى الدماغ، ولا ينتهي إلى الدماغ شيء إلا انحدر منه جزء إلى المعدة، ولهذا يتقوّى الضعيف بالطّيب الذي يصل إلى دماغه، فإنه يردُّ جزءاً منه وإن قل إلى المعدة.
وإذا وصل اللبن إلى مثانة الصبي، فهو بمعنى الحقنة وإن زُرّق اللبنُ في إحليله فلم ينته إلى المثانة، كان ذلك خارجاً على الخلاف في أن ذلك هل يفطر الصائم؟ فإن قلنا: إنه لا يفطره، فلا تتعلق الحرمة به، وإن قلنا: إنه يفطره، ففي تعلق الحرمة به القولان المذكوران في الحقنة.
10009- وقد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطّر في أذنه شيئاًً هل يفطر؟ فإن قلنا: إنه لا يفطر، لم يتعلق بوصول اللبن إلى داخل الأذن حرمة الرضاع، وإن قلنا: إنه يفطر، فالوجه تخريج الخلاف في حصول الحرمة على قولي الحقنة، وقد ذكر الشيخ أبو علي نص الشافعي في أنه لا تتعلّق به حرمة الرضاع.
ولو أصاب الصبي قَرْحٌ فوصل اللبن منه إلى الباطن، فهذا من المفطرات، ولكن إذا لم يكن ذلك الباطن محل التغذية، خرج القولان المذكوران في الحقنة.
ولم يختلف الأصحاب في أن الواصل بالمسامّ لا حكم له، كاللبن يقطّر على الرأس، وقد يُفرض غوصُه وانتهاؤه إلى الدماغ، ولكن إذا كان الفطر لا يحصل به، فيستحيل أن تحصل حرمة الرضاع به.
فصل:
قال: "وأدخل الشافعي على من قال... إلى آخره".
10010- مقصود هذا الفصل الكلامُ في وصول اللبن إلى محل التغذية أو الجوف المعتبر بعد أن يلحقه التغايير بامتداد الزمان، أو الخَلْط، أو الصَّنْعة، فنقول:
عَقْدُ الفصل أن اللبن إذا وصل إلى الجوف المعتبر، تعلقت الحرمة به، سواء كان طريّاً، أو حائلاً بامتداد الزمان، فلو رابَ، أو جُبِّن أو أقّط، فوصل اللبن إلى الجوف، تعلقت به الحرمة.
ولم يعتبر الشافعي في ذلك اسمَ اللبن اعتباره اسم الإرضاع، حيث جعل العددَ والتخصّصَ بالزمان في حكم تخصيص العام؛ فإنه رأى في الشرع الاعتناءَ بالرضاع والإرضاع، وفهم على القطع وصولَ اللبن على أي جهةٍ فُرض، ولم ير للشرع اعتناءً باسم اللبن، فلم يكترث بالتغايير التي تلحقه.
وقد يعترض في ذلك أن اللبن إذا مُخض ومُيّز الزُّبد منه، فالباقي مَخيض، فلو أمكن مثل ذلك في لبن الآدميات، فكل جزء يصل إلى الباطن تتعلق الحرمة به.
هذا قولنا في التغايير التي تلحق اللبن.
10011- فأما إذا خلط اللبن بغيره، فنذكر التفصيل في خلطه بالماء، ثم نبيّن خلطَه بغيره، فإن خُلطَ بالماء، لم يَخْلُ: إما أن يكون الماء قليلاً، أو يكون بالغاً حد الكثرة.
فإن كان في حدّ القِلة، واختلط اللبن به، لم يخلُ: إما أن يكون اللبن غالباًً، أو مغلوباً.
فإن كان غالباً، فما وصل منه إلى الجوف المعتبر، فهو مثبت للحرمة.
وإن كان مغلوباً-وتصوُّرُ ذلك منه إذا كان لا يظهر من صفات اللبن شيء لا اللون، ولا الطّعم ولا الرائحة- فهل تتعلق حرمة الرضاع بإيصاله إلى الجوف؟ فعلى قولين: أظهرهما- أن الحرمة تتعلق به. والقول الثاني- أن الحرمة لا تتعلق به، وهو مذهب أبي حنيفة.
توجيه القولين: من قال: تتعلق الحرمة به احتج بأن اللبن في حكم المستهلَك، فكأنْ لا لبن، والدليل عليه أن التوضُّؤ بهذا الماء جائز، وإن امتنع التوضؤ باللبن. والقول الثاني- أن الحرمة تتعلق به؛ فإن اللبن واصلٌ إلى الجوف، وهو المطلوب، وإذا تحقق وصوله، وجب تعلق الحرمة به.
ويقرب مأخذ القولين من أصلٍ ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار الذي لا يسعْ وضوءاً من الماء إذا كمل بالماوَرْد وهو مغلوب بالماء، ففي جواز التوضؤ به خلاف.
ووجهُ التقريب لائح، فإنا في وجهٍ نقول: المغلوب كالمعدوم، وفي وجه نُثبت لوجوده المحقَّقِ الحكمَ، ونقول: المتوضىء به لم يستعمل الماء الطهور في أعضاء الوضوء على تحقيق.
10012- فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة به لكونه مغلوباً، فلو أتى الصبيّ على جميع الماء، لم تتعلق الحرمة به.
وإن قلنا: على القول الأصح، وهو أن الحرمة تتعلق به، فلو شرب الصبي جميعَه، تعلقت الحرمة بمباشرته؛ فإن اللبن وصل بشرب جميعه إلى باطنه يقيناً.
وإن شرب من ذلك المختلط بعضه، والتفريعُ على القول الذي انتهينا إليه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الحرمة لا تثبت؛ لأنا لم نستيقن وصول اللبن إلى الجوف، ولسنا نُبعد أن يكون اللبن فيما بقي.
والوجه الثاني- أن الحرمة تثبت؛ فإن اللبن منبثٌ في الجميع، وجميع أجزائه منبسطة على جميع أجزاء الماء، ولو لم يكن كذلك، لكان ممتازاً عن الماء، ولكان يُحَسّ امتيازُه، وليس الأمر كذلك.
ثم الوجهان عندنا فيه إذا كان الباقي بحيث يمكن تقدير انحياز اللبن إليه، فإن عرفنا قطعاًً أن المقدار الذي شربه الصبي منه جزء من اللبن، قطعنا بحصول الحرمة على القول الذي عليه التفريع، وذلك بأن يكون الماء أرطالاً، واللّبن رَطلاً، فأبقى الصبي من الماء ما يعلم أن رَطلاً من اللبن يغيره لا محالة، وكان الماء صافياً، فقد أتى الصبي على اللبن، فلا يجري الخلاف هاهنا.
هذا إذا كان الماء في حد القلّة.
10013- وأما إذا كان الماء في حدّ الكثرة بالغاً قلتين، فهذا يرتب على الماء القليل؛ فإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل يُسقط حرمةَ اللبن، فالماء الكثير بذلك أولى.
وإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل لا يسقط حرمةَ اللبن، فالاختلاط بالكثير الذي يبلغ قلتين يجري الترتيب فيه على عكس ما ذكرناه، فنقول: إن أتى على بعض الماء على الحد الذي ذكرناه، لم يتعلق به الحرمة، وإن أتى الصبي على جميع الماء، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الحرمة تثبت وإن كان اللبن مغلوباً، كالماء القليل.
والثاني: أن الحرمة لا تثبت؛ فإن هذا المبلغ من الشرع على قوة غالبة، ولذلك لا يحمل نجساً مع استيقان انبثاث النجاسة فيه.
والأولى أن ننفصل عن هذا ونقول: أمرُ النجاسة واندفاعُها مبني على مسيس الحاجةِ والضرورة؛ فإن المياه إذا كثرت وبلغت مبلغاً لا تحويه الظروف والأوعية، فيعسر صونها عن النجاسة، ومن الأصول الثابتة العفوُ عن النجاسات التي يعسر التصوُّن منها، وهذا المعنى لا يتحقق في اللبن، فيجب أن نرعى فيه استيقان وصول اللبن إلى الجوف.
وإذا كان كذلك، فلو أتى الصبي على قُلَّةٍ من الماء، وقد مازج الماءَ رَطلٌ أو أكثر من اللبن، فلا يبعد تخريج ذلك على الخلاف، فإن هذا القائل يجعل الماء الكثير كالماء القليل، ولا يربط بما فيه من القوة الدافعة للنجاسة حُكماً، فيترتب عليه إخراج حد الكثرة عن الاعتبار.
10014- ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا ذكرنا اللبن وكونَه مغلوباً أو غالباًً، وقد اختلف أئمتنا في معنى الغلبة، فذهب ذاهبون إلى أن المغلوب هو الذي لا يُحَسُّ له وصف، وإليه مصير الجماهير.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المغلوب هو الذي يَخرُج بكثرة الماء عن كونه معتدّاً للتغذي؛ فإن الغلبة في كل باب تعتبر على حسب ما يليق به، والمعنيُّ بما ذكرناه أن يصير اللبن-وإن كان يحسُّ لونه مثلاً مع الماء- بحيث لا يغذي.
وهذا الذي ذكره فيه خيالُ الفقه، ولكن التصوير لا يطابقه، فإن وصف اللبن إذا كان بادياً، فلابد وأن يكون مؤثراً جنسُه في الغذاء، وإن كان يرق، وهذا بمثابة قِلَّةِ القدر، فإن القَطْرةَ إذا وصلت وإن لم يظهر لها غَناء في الغذاء محسوس بمثابة المقدار الصالح منه، وإنما نَظَرُنا في أنه إذا انغمرت جميعُ الصفات، هل يسقط إثرُ الغذاء؟
10015-وكل ما ذكرناه فيه إذا اختلط اللبن بالماء، فأما إذا اختلط بغيره من الأطعمة والأدوية، فجميعها على أقدارها بمثابة الماء القليل؛ فإنه لا حدّ فيها للشرع في تميز الكثير عن القليل.
10016- ولا ثقة بدرك لُباب هذا الفصل إلا بالنظر في دقيقةٍ، وهي أن اللبن إذا اختلط بشيء اختلاطاً حقيقياً، ولم يُستيقن انبثاثُه على جميع أجزائه، وفُرض تعاطي الصبي طرفاً مما لا يستيقن انبثاثُ اللبن إليه، فالظاهر أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإن وصول اللبن مشكوك.
وجَبُن بعض أصحابنا، فأجرى حكمَ الحرمة مجرى الحكم بالنجاسة، فقد ثبت أن قطرة من البول لو وقعت في طرفٍ من ماء قارٍّ على ضَحْضَاحٍ منبسط، فيتصل بوقوعه حُكْمُنا بنجاسة الطرف الأقصى، فلا ينبغي للفقيه أن يُجري حكمَ اللبن هذا المجرى؛ فإن مدار هذه الفصول في الرضاع على استيقان وصول اللبن إلى الجوف، وإن كان مغلوباً، أو على إسقاط حكمه إذا غُلب.
والنجاسةُ معظم أحكامها مبنيّ على التقذّر وعيافةِ النفوس.
وهذا المعنى قد يحصل في الطرف الأقصى قبل انبثاث النجاسة حساً إليه.
ومن أصحابنا من أجرى اختلاطَ اللبن مجرى اختلاطِ النجاسة إذا قلنا: لا تسقط حرمةٌ مغلوبة، وهذا غفلة عن سرّ الباب وخلطُ الأصل بأصلٍ.
10017- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن القطرة من اللبن إذا قطّرت في فم الصبي، ومازجها ريقُه، وصارت مغلوبةً بالريق، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الحرمة تثبت، وبَنَوْا ذلك على عسر النظر إلى ما وراء الشفتين، وجعلوا القطرةَ الغائبة بالوصول إلى الفم كالقطرة التي تغيب بمجاوزة الغلصمة، وقدّروا اختلاطها برطوبات الفمّ بمثابة اختلاطها برطوبات المعدة.
ومن أصحابنا من جعل الريق من حيث إنه من محلٍّ ملحقٍ بالظواهر بمثابة سائر المائعات التي يختلط اللبن بها؛ حتى يترددَ النظرُ في الغالب والمغلوب.
وقد نجز ما أردناه من تغايير اللبن بالصنعة والزمان والاختلاط.
10018- ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ لبن البهائم، فلا تتعلق به حرمة، وهذا لا غموضَ فيه، ولكنه قصد بإيراده الردَّ على عطاء؛ فإنه جعل الصبيين المجتمعين على لبن بهيمةٍ أخوين، وهذا من فَضَحات مذهبه؛ فإن الأخوةَ فرعُ الأمومة والأبوة، وأخ الإنسان ابن أبيه وابن أمه، وإذا استحال تقدير الأصل، استحال الفرع.
10019- ثم ذكر الشافعي لبن الميتة، فإذا ماتت المرأة، فاحتُلِبَ منها بعد الموت لبن، لم يتعلق به حرمةُ الرضاع عند الشافعي، فإن انفصاله جرى والجثة منفكة عن الحرمة الثابتة للأحياء، وخلاف أبي حنيفة مشهور في ذلك.
ولو احتلب اللبن منها، وهي حية، فماتت، فتعاطاه الصبي بعد موتها، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الحرمةَ تتعلق به، والسبب فيه أن الذي عليه التعويل في سقوطه سقوطُ حرمةِ الميتة؛ فإنها إذا ماتت واللبن في ثديها، فيتبعُ سقوطُ حرمة اللبن سقوطَ حرمة الأم؛ من جهة أنه اكتسب الحرمة من انسلاكه في مجاريها، وهي حية، فإذا لم ينفصل حتى سقط حرمتُها، فيسقط حرمةُ اللبن تبعاً، كما تثبت حرمتُه تبعاً.
وهذا المعنى إنما يتحقق إذا ماتت واللبن في ثديها، فأما إذا حُلب اللبن منها في حياتها، فسقوط حرمتها إذا ماتت يستحيل أن يتعدى إلى اللبن المفصول منها.
وبلّغني من أثق به أن القاضي كان يحكي وجهاً أن الحرمة لا تتعلق باللبن المحلوب في الحياة إذا اتفق وصوله إلى الجوف بعد موت صاحبة اللبن، ورأيت هذا الوجه لبعض الأصحاب في طرق العراق.
ووجهه-على بعده في الحكاية- أن اللبن لو أثبتَ الحرمةَ، لثبتت الأمومة بعد الموت، والأمومة أم الحرمات في الرضاع، فيبعد ثبوتها بعد سقوط الحرمة، وهذا لو كان مشهوراً في الحكاية، لكان وجهاً متجهاً، وحكايته معروفة بين الخلافيين، وهذا الوجه مخالف للنص الذي نقله المزني.
فصل:
قال: "ولو تزوج صغيرة ثم أرضعتها أُمُّه... إلى آخره".
10020- افتتح المزني المسائل المطلوبةَ المنسوبة إلى مغمضات الكتاب وإن كانت بيّنة عند ذوي الفطانة، وإنما فيها ما يُحوِج إلى تجديد الفكر والإكباب.
ولكني أرى أن أصدر المسائل التي بين أيدينا بأصلين:
أحدهما: يتعلق بغُرم المهر: ونحن نقول فيه: إذا نكح الرجل صغيرةً رضيعة، فأرضعتها كبيرةٌ إرضاعاً يتضمن انفساخَ نكاحها، وذلك يفرض من وجوهٍ ستأتي مشروحة: منها أن تكون المرضعة أمَّ الزوج، أو ابنتَه، أو أختَه، فإن كانت أمَّه، فتصير الصغيرة أختَ الزوج، وإن كانت ابنتَه، فتصير حافدةَ الزوج، وحكمها حكم الولد، وإن كانت أختَه، صارت بنتَ أخته، وصار هو خالها، وليس استيعاب وجوه الفساد من غرضنا الآن؛ فإنها ستأتي مستقصاةً بالصور، وفي الأصول التي مهدناها في صدر
الكتاب ما يرشد إلى جميع ذلك.
وغرضنا الآن التعرض للغُرم.
10021- فإذا أرضعت امرأةٌ الصغيرةَ الرضيعةَ إرضاعاً مفسداً للنكاح، فإنها تغرم للزوج-بسبب تفويتها عليه الزوجيةَ في الصغيرة- والكلام فيما تغرمه؛ فإن الرضيعة غيرُ ممسوسة، فنذكر ما تغرَمُه المرضعةُ إذا أفسدت نكاحاً قبل المسيس، ثم نذكر حكم الغرم إذا أفسدت نكاحاً بعد المسيس.
فأما التفصيل فيما قبل الدخول، فالذي نصّ عليه الشافعي أن المرضعةَ تغرَم نصف مهر المثلِ قبل الدخول، ونص على أن الشهود إذا شهدوا على الطلاق قبل الدخول، ورجعوا عن الشهادة، بعد نفوذ الحكم، غرِموا تمامَ مهر المثل.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحد القولين- أن الواجب نصف مهر المثل على المرضعة والشهود، إذا كان الفَرْض قبل الدخول؛ لأن الملك إذا لم يتأكد بالدخول، كان العوض فيه على حده، ويعرف عدم تأكده بعدم تأكد عوضه؛ فإن الصداق المسمى لا يستقر منه قبل المسيس إلا شطره إذا كان الفراق بالطلاق.
والقول الثاني- أنه يجب على المرضعة والشهودِ مهرُ المثل، فإن التفويت قد تحقق في ملكٍ تام لا نقصان فيه، ولولا تمامُه، لما انتظم الإقدام على الوطء، ولو فرض موتٌ قبل الدخول، كان كما لو فرض بعده.
10022- ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وقال: على المرضعة نصفُ مهر المثل قبل المسيس، وعلى الشهود إذا رجعوا تمامُ مهر المثل. والفرق أن المرضعة قطعت النكاح بالإرضاع، فقرب تشبيه ما تلتزمه من قيمة البضع بما يلتزمه الزوج من المسمّى إذا طلق قبل الدخول.
والشهود لم يقطعوا النكاح باطناً، وإنما أثبتوا حيلولةً لا مطمع في رفعها، والنكاح على زعمهم دائم والطَّلِبة بتمام المسمى متوجهة على الزوج، مع دوام النكاح قبل المسيس.
ومن أصحابنا من أقر النص في الشهود، ولم يخرّج فيهم من المرضعة قولاً، وخرّج في المرضعة قولاً أنها تلتزم تمام مهر المثل.
وهذا أقسط الطرق؛ فإن التبعيض في الشهود لا احتمال فيه، وإيجاب تمام المهر على المرضعة ظاهر في القياس؛ فإن تشبيهها بالمطلّق اكتفاءٌ من المشبِّه بتلفيق لا حاصل وراءه؛ من جهة أن المطلّق هو الذي أزال ملكه قبل أن يستوفيه، فارتدت المنافع إليها بجملتها، فقابل الشرع استمكانه منها ببعض الصّداق. وأما المرضعة إذا فوتت ملكه قبل أن يستوفيه فهي أحرى بأن تلتزم الكمال.
فليتأمل الناظر من كلامنا أمثالَ هذه المواضع.
هذا الذي ذكرناه قاعدةُ المذهب.
وقال أبو حنيفة على المرضعة قبل المسيس نصفُ الصداق المسمى، وهو الذي يغرمه الزوج لزوجته التي فسد نكاحها بالرضاع، وهذا له اتجاه على حال؛ من جهة أن تقوّم البضع بقطع الملك فيه إلحاق له بالأموال المحضة، وليس هذا من قبيل استهلاك منافع البضع بالوطء، فإن تقوّمها بسبب تأكد الحرمة يضاهي تقوّم الحر إذا أتلف.
10023- وقد حكى الشيخ أبو علي وغيره قولين آخرين في المرضعة، سوى ما قدمناه:
أحدهما: مثل مذهب أبي حنيفة، ووجهه ما أشرنا إليه، فإذا قطعنا النظر عن قيمة البضع، فلابد من تغريمها ما ضيعته على الزوج من ماله، والمضيَّعُ ما بذله الزوج، وهو نصف المسمى.
والقول الثاني- أنها تغرَم له تمام المسمى؛ فإن الغرم إذا رجع إلى المسمى، فالتشطير لا يثبت إلا في حق الزوج.
وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن التفويت يتحقق فيما يبذله أو فيما يلزمه بذله، وهو نصف المسمى.
ولو كان الزوج أصدقَ امرأته خمراً، واقتضى الحكم الرجوع إلى مهر المثل، فالقولان الزائدان لا يزيدان تحقيقاً، وان زادا تقديراً، فإنا في قولٍ نوجب نصف مهر المثل، وفي قولٍ نوجب تمام مهر المثل، غير أنا أجريناهما على قاعدة المذهب، فالنصف نصف قيمة البضع، والتمام تمام قيمة البضع، فإن أجرينا القولين الزائدين، فالنصف في محل نصف المسمى، والتمام في محل تمام المسمى.
10024- فإذاً تَجَمَّعَ في المرضعة أربعةُ أقوال في نكاح لا مسيس فيه: أحدها: أنها تلتزم نصف مهر المثل.
والثاني: أنها تلتزم تمام مهر المثل. والثالث: أنها تلتزم نصف المسمى. والرابع- أنها تلتزم تمام المسمى.
وأما الشهود إذا رجعُوا قبل المسيس، ففيهم قولان:
أحدهما: أنهم يلتزمون تمام مهر المثل، وهو الأصح.
والثاني: أنهم يلتزمون نصف مهر المثل.
والذي أراه أن القولين المحكيين في المرضعة في نصف المسمى، وتمام المسمى يجريان في الشهود، فإن مأخذهما عدم تقوّم البضع من غير إتلاف ولا تملّك، وليس هذا كتقويمنا البضع في مقابلة الشقص الممهور؛ فإن ذلك تقويمُ تقدير، كما سبق في موضعه.
وذكر الصيدلاني وغيره من الأئمة قولاً آخر في الشهود، وهو أن الزوج إن كان بذل تمام المهر، فالشهود يغرمون التمام؛ لأنه أنكر الطلاق قبل المسيس، فلا يمكنه استرداد ما بذله، فإن كان لم يبذل من الصداق شيئاً أو بذل نصفه، لم يطالِب إلا بالنصف بعد نفوذ القضاء بالطلاق، فانتصب هذا قولاً مفصلاً خامساً.
والذي أراه أن هذا يحسن إذا كنا نغرّم الشهود المسمى نصفَه أو كلَّه.
فانتظم إذاً في الشهود خمسة أقوال.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان إفساد النكاح بالإرضاع قبل المسيس.
10025- فأما إذا تسببت المرضعة إلى إفساد النكاح بعد المسيس، وهذا يُتصور على وجوهٍ ستأتي مفصلةً نذكر منها صورةً للتمثيل: فإذا نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاحُ الكبيرة على الرأي الظاهر، فإذا تغرم أمُّ الكبيرة لزوجها والكبيرةُ ممسوسةٌ؟ ما قطع به الأصحاب أنها تغرَم تمامَ مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنها فوتت النكاح بعد استقراره، وتأكده بالمسيس.
قال صاحب التقريب: حكى المزني في غير المختصر عن الشافعي أنه قال: لا يجب على المرضعة المفسدةِ للنكاح بعد المسيس شيء؛ لأن الزوج قد استوفى بالمسيس حقه، والوطأةُ الواحدة بمثابة وطْآت العمر، ولذلك تُقرِّر الصداقَ عليه، وبطل حق المرأة في حق حبسها نفسها، ولو ارتدت بعد المسيس، وانفسخ النكاح لإصرارها إلى انقضاء العدة، لم يسقط المسمى، حكى المزني ذلك عن الشافعي، وقطع الشافعي فيما نَقَل جوابَه بهذا، وهو مذهب أبي حنيفة.
ثم خرّج المزني قولاً أن المرضعة تلتزم مهر المثل، قال صاحب التقريب: كنت أقطع بهذا القول الذي خرجه، ولا أعرف غيره، حتى اطلعتُ على ما نقله المزني.
فانتظم في الغرم إذاً قولان بعد المسيس:
أحدهما: أنه لا يجب شيء وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني- أنه يجب المهر بكماله وهو القول المشهور المنصورُ في الخلاف.
وإذا طردنا قولين في المرضعة، لزم إجراؤهما في الشهود على الطلاق بعد المسيس، إذا رجعوا عن شهادتهم.
وقد نجز القول الكلي فيما يتعلق بالغرم المتوجه على المرضعة.
10026- ونحن ننعطف على المسألة ونستفتح فيها حكماً آخر فنقول: إذا كان الإرضاع مثبتاً للغرم على التفصيل المقدم، فلا حكم لارتضاع الصبيّة، وإن كان لها فعلٌ واختيار، ولكنه في حكم المغلوب بالإضافة إلى الإرضاع.
هذا ما وجدته متفقاً عليه بين الأصحاب.
والممكن في تقديره أن ارتضاعَ الصبيةِ طِباعٌ، واختيارُ المُرضعة أغلبُ، وهذا يضاهي فتح القفص مع اتصال الطيران بالفتح؛ من جهة أن ابتغاء الطائر الإفلات طِباعٌ مع اتفاق الفتح، ولكن في ذلك الأصل أقوال ذكرناها.
ولا خلاف أن الارتضاع لا حكم له مع اتصال الاختيار بالإرضاع، فحق هذا الذي نحن فيه أن نستشهد به في نصرة بعض الأقوال في إفلات الطائر، ولا فرق بين أن يتصل الارتضاع بإلقام المرضعةِ الصبيَّ الثديَ، وبين أن ينفصل، وفي فتح القفص نَفْصل بين الاتصال والانفصال، كما تقرر في موضعه، والفرق أن فعل الفاتح انتهى بالفتح، فلا يمتنعُ اعتبارُ انفصالٍ عنه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المرضعة إذا ألقمت الصبيَّ الثديَ، فإدامتها الثدي في فم الصبي من فعلها، وهو بمثابة ابتداء الإلقام.
10027- ولو كانت المرضعة نائمة، فدبَّت الصبية إلى ثديها، والتقمت وارتضعت، فلا فعل ولا اختيار للمرضعة، فالمذهب الظاهر أن الفعل محالٌ على الارتضاع في هذه الصورة، وأثر الإحالة عليه شيئان:
أحدهما: أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاً؛ لأنها لم تتسبّب، ولم تنسب إلى اختيار.
والثاني: أن مهر الصغيرة المسمى لها يسقط، لانتسابها إلى الارتضاع، وإحالتنا الحكم عليه، وهو بمثابة ما لو ارتدت الكبيرة قبل المسيس.
هذا ظاهر المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين سوى ما ذكرناه:
أحدهما: أن هذه الحالة بمثابة ما لو أرضعت الكبيرة اختياراً وارتضعت الصبية، فلا حكم للارتضاع، والغرم محال على صاحبة اللبن، وحكى هذا الوجه عن الداركي من أصحابنا.
وتوجيهه-على بعده- فيما نقله: أن صاحبة اللبن منتسبة إلى التقصير، وترك التحفظ؛ إذ نامت في مكانٍ وبالقرب منها مرتَضِعٌ.
وهذا على نهاية البعد.
والوجه الآخر- أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاًً لزوج الصغيرة، وللصغيرة نصف الصداق المسمى، وهذا في التحقيق إسقاط أثر الإرضاع والارتضاع جميعاًً، وهذا أوْجَه قليلاً مما حكاه عن الدارَكي. أما سقوط الغُرم عن صاحبة اللبن، فبيّنٌ متجه.
وأما عدم سقوط جميع المسمى، فمعلل بحمل الارتضاع على الطباع حيث وجد، فيسقط أثره، وقد يعتضد هذا في الحسّ بأن الصبي ينفصل عن الأم، فيأخذ في الارتضاع، ولا يجوز أن يفرض له اختيار في هذه الحالة، وعليه حمل بعضُ المفسرين قولَه تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
فقد تحصّل في ارتضاع الصبية من الكبيرة النائمة ثلاثةُ أوجه: أحدها: إسقاط الغرم وإحالةُ الإفساد على الارتضاع، وهو الأول، والوجهان الآخران قد بانا، فانتظمت الأوجه.
10028- وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو الوجه الأول، فلو قطَرَتْ قطرةٌ من ثدي صاحبة اللبن، وطيرتها الريح وفاقاً إلى غلصمة الصبية، فلم يوجد منها إرضاع ولا منها ارتضاع، فالذي ذكره الأصحاب تفريعاً على الوجه الأول المشهور أنه لا غرم على الكبيرة، وللصبية نصف صداقها على زوجها.
وإذا فرعنا على مذهب الدارَكي، فلا شك أنه يوجب الغرم على الكبيرة، وهو ضعيف لا تفريع عليه.
هذا قولنا في ارتضاع الصبية من غير إرضاع.
10029- ونحن ننعطف على المسألة انعطافاً آخر، ونأخذ في تفصيلِ أصلٍ آخر: ما رأيناه تمحيصٌ للأغراض والمقاصد في المسائل أقربُ إلى مسلك البيان من خلط الأحكام بعضها بالبعض، فنقول: إن وُجد من الصبية ارتضاعٌ، ومن صاحبة اللبن إرضاع، فلا حكم لارتضاعها، ولها نصف المسمى على زوجها.
وقد يعترض هاهنا سؤال، وهو أن الصداق إنما يتشطر إذا كان الزوج هو المطلِّق، فينضم إلى تمكنه من الاستمتاع، وإن لم يستمتع رفعُه النكاحَ بالطلاق، فيترتب عليه أن المسمى لا يسقط جميعه، وهاهنا لم يتسبب الزوج إلى رفع النكاح، وإنما ارتفع دونه قبل أن يصل إلى مقصوده.
فنقول: الأمر وإن كان كذلك، فنصف المسمى ثابت؛ فإن ارتضاع الصبيةِ عديمُ الأثر، فالرفع يغرّم الكبيرة، فيبعد أن يفوز بقيمة ما فُوّت عليه، ولا يغرَم للصبية من عوض العقد شيئاً.
نعم، لو قطرت قطرة من اللبن من غير قصد، ووصل إلى باطن الصبية من غير قصدٍ منها، وجرينا على الأصح في نفي الغرم عن صاحبة اللبن، فهاهنا انقطع النكاح من غير قصد من الزوج، ولم يُخلِّف انقطاعُ النكاح غرماً، فالمذهب المنقول أنه يجب على الزوج نصف المسمى كما ذكرناه، ووجهه أن النكاح لا يعرى عن شيء من العوض إذا لم يظهر انتساب المرأة إلى رفعه، ولا انتسابَ من الصبية في الصورة التي ذكرناها.
وفي هذه الصورة أدنى احتمال؛ من جهة أن الزوج لم يرفع النكاح، ولم يَفُز بعوض عنه.
وهذا مذهب مالك، وفي مسائلنا ما يناظر هذا.
وهذا احتمال. والمذهب ما قطع الأصحاب به.
10030- فإذاً يتسق في الغرض الذي نطلبه ثلاث صور: إحداها- أن يوجد الإرضاع والارتضاع، فللصبية نصف المسمى.
والأخرى- أن ترتضع وصاحبة اللبن نائمة، فالمذهب سقوط مسماها، لتجرد ارتضاعها، وحكينا عن الدارَكي وغيرِه وجهاً آخر أن لها نصفَ المسمى.
والصورة الثالثة- ألا يوجد من الصبية ارتضاع- في مسألة انفصال القطرة واتصالها بباطن الصبية- فالذي قطع به الأصحاب أنه يجب لها نصف المسمى على زوجها، وقال مالك يسقط جميعُ المسمى، وما ذكرناه من الاحتمال توجيه مذهب مالك.
10031- ومما نختتم فصلَ الغرم به أن الرجل إذا نكح كبيرةً وصغيرةً، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وفسد نكاحهما، كما سنبين، أما أمر الصغيرة، فقد أوضحناه في الغرم، وأما الكبيرة؛ فإنها تسببت إلى إفساد نكاح نفسها أيضاًً بالإرضاع، وأثر ذلك أنه يسقط مسماها، ولا تغرم للزوج شيئاً، بخلاف المرضعة التي ليست بزوجة، وذلك لأن الضمان المتعلق بالمتعاقدين في المعقود عليه يختص بترادّ العوض.
فهذا أثر إفسادها نكاح نفسها.
وهذا فيه إشكال لا يليق استقصاؤه بالمذهب، وقد ذكرناه في مسائل الخلاف.
وهذا نجاز أحد الأصلين المقدمين على مسائل الفصل، وهذا بيان الغرم، وما يجب وما يسقط.
10032- وأما الأصل الثاني- فنقول: إذا اتصل الصهر بحرمة الرضاع، تعلقت حرمة المصاهرة بما يجري، ولا فرق بين أن يتفق ذلك قبل النكاح، أو في دوامه، أو بعد ارتفاعه. والأصل متفق عليه.
10033- وبيانه بالمسائل أن المرأة إذا أرضعت صبيّةً، فنكح الصبيةَ رجل، فالتي صارت أمها بالرضاعة محرمةٌ على الزوج على التأبيد، والأمومة في هذه الصورة متقدمة على الزوجية وأم الزوجة محرمة على التأبيد.
ولو نكح الرجل صغيرةً وأبانها، فأرضعتها أجنبيةٌ خمساً في الحولين، حرمت هذه الأجنبية على الذي كان زوجاً للصبية، والأمومة تثبت بعد ارتفاع الزوجية، ولكن كانت هذه الصبية زوجة، وقد ثبتت أمومة المرضعة، فلا نظر إلى تقدم الزوجية وتاريخ الرضاعة، وهذا متفق عليه لا نعرف فيه خلافاًً.
ولو نكح الرجل كبيرةً، ثم أبانها، فنكحت غلاماً رضيعاً قَبِل نكاحَها له أبوه، وكانت ذاتَ ابنٍ من الزوج الأول، فلو أرضعت زوجَها الرضيعَ بلبان الزوج الأول، فلا شك في انفساخ نكاح الرضيع؛ لأن الكبيرة صارت أمَّه، وتحرم هذه الكبيرة على الزوج الأول على التأبيد، فإنها من زوجات ابنه من الرضاع، وحليلة الابن من الرضاع محرمة على الأب، فقد أثبت إرضاعها بنوة الرضيع من الزوج الأول، وانعقد النكاح قبل ذلك، فصارت حليلة الابن.
وهذا ينبني على الأصل الذي مهدناه من أنا لا نعتبر التواريخ في ترتُّب الصهر على الرضاع والرضاع على الصهر.
ومما بناه الأئمة على هذه القاعدة أن رجلاً اسمه زيد لو نكح كبيرة، ونكح رجل اسمه عمرو رضيعة، ثم أبان كل واحد منهما زوجته، واستبدلا: فنكح زيد الرضيعة، ونكح عمرو الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة بعد الاستبدال الصغيرة، فنقول: أما الكبيرة فتحرم عليهما جميعاًً لأنها صارت أم زوجة كل واحد منهما؛ فإن الصغيرة نكحها عمرو أولاً ثم زيد، ولا نظر إلى التاريخ.
وأما الصغيرة، فنقول: إن لم يدخل زيد بالكبيرة لما كانت تحته، فنكاح الصغيرة يتأتّى، لأنها صارت ربيبة امرأة لم يدخل بها، وإن كان الأول دخل بالكبيرة، انفسخ الآن نكاح الصغيرة، لأنها صارت ربيبةَ امرأة مدخولٍ بها.
ولولا إقامة الرسم وطردُ الكتاب على نسق واحد في البيان، لرأيت طرح معظم هذه الأمثلة؛ لأن الفطن يتبرّم بها، ولا يكاد يخفى مداركها على أوائل النظر، ولكني أُجريها على صيغة البيان، وهذا معذرةٌ إلى الفقيه المنتهي إلى هذا المنتهى.
10034- قال ابن الحداد: إذا در لمستولدة الرجلِ لبنٌ على ولده المنتسبِ إليه، ثم إنه زوجها من عبد له صغيرٍ رضيع، فلو أرضعته، فلا شك في انفساخ النكاح.
ثم حكى عن الشافعي أنه قال: لا تحرم المستولدة على مولاها، وقال معترضاً: الرأي تحريمها؛ فإن العبد الصغير صار ابناً للمولى، وهذه زوجة ابنه، وحليلة الابن تحرم.
فقال الأصحاب: إن صححنا النكاح، فلا شك أن الجواب المبتوت ما ذكره ابن الحداد، ولكن حمل الأصحاب النص الذي نقله على فساد النكاح.
ووجهوا للفساد ثلاثة أوجه: أحدها: أن التزويج من العبد الصغير لا يجوز؛ بناء على أن إجبار العبد الصغير على النكاح غيرُ جائز؛ من حيث إنه يُلزم ذمته مالاً.
والوجه الثاني في توجيه الفساد- منعُ تزويج المستولدة؛ فإنا قد نمنع ذلك في قولٍ، كما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله وحده.
والوجه الثالث: أن من زوج أمته من عبده، فالمذهب الأشهر والمسلك الأظهر أن النكاح يصح، وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجهاً غريباً أن تزويج أمته من عبده غيرُ صحيح، وهذا-على بعده- موجه باستحالة ثبوت المهر، وإن كان كذلك، امتنع عقد النكاح؛ من جهة استحالة ثبوت العوض بالعقد وعند المسيس، وضاهى ذلك بدَلَ البضع.
ولست أدري أقدَّمنا ذكر هذا في النكاح؟ فإن لم نذكره، فقد ذكرناه الآن.
وإذا أفسدنا النكاح بوجهٍ من هذه الوجوه، لم تثبت الزوجيةُ مع الابن.
وإذا نكح ابنُ الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، ولم يطأها على الشبهة، لم تحرم على الأب، فإن النكاح إنما يحرِّم حليلة الابن على الأب وحليلة الأب على الابن إذا صح.
فهذا محمل النص الذي حكاه ابن الحداد.
وإن صححنا النكاح، فليس تحريم المستولدة على المولى مما يُتمارى فيه.
وقد نجز ما أردناه من تمهيد الأصل الثاني.
وقد حان أن نخوض في المسائل، ومعظمها منصوصة فلا يضر حفظها حتى تكون معتدة في الذكر وتتهذب الأصول بها، ونحن نأتي بها صورة صورة.
فصل:
قال: "ولو أرضعتها امرأة له كبيرة لم يصبها... إلى آخره".
10035- نستغرق مقصود الفصل برسم الصور.
صورة: إذا كان تحت رجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرةُ الرضيعةَ، نظر: فإن أرضعتها بلبان الزوج، انفسخ نكاحهما، أما الصغيرة، فقد صارت بنت الزوج، وأما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء.
ان كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، فلا يخلو إما أن تكون مدخولاً بها، وإما أن لا تكون مدخولاً بها. فإن كانت مدخولاً بها، انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة، وحرمتا على الأبد: أما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء، والصغيرة ربيبةُ امرأةٍ مدخولٍ بها.
ان لم تكن مدخولاً بها، فلا شك في انفساخ نكاحهما لثبوت البنوة والأمومة بينهما، والجمع بين الأم والبنت مستحيل، وليست إحداهما أولى بالاندفاع، وأما الكبيرة، فقد حرمت على الأبد؛ هذه العلة فيها كافية في انفساخ نكاحها؛ فإنها صارت من أمهات النساء، ولا تحرم الصغيرة على الأبد، وإنما ينفسخ نكاحها في الحال لما أشرنا إليه من الجمع، وإلا فهي ربيبة امرأة لم يدخل بها، فلو أراد أن ينكح الصغيرة ابتداء، أمكنه ذلك.
ولا يضر أن نُجريَ في بعض المسائل أحكامَ الغرم، وإن مهدنا أصله، وإحالةُ الإفساد على الكبيرة، والجريانُ على الأصح، فتغرمُ للزوج نصفَ مهر الصغيرة، ويسقط مهرها إن لم يكن مدخولاً بها، كما لو ارتدت قبل المسيس، وإن كانت مدخولاً بها، لم يسقط مهرها المسمى على الرأي الظاهر، كما لو ارتدت المرأة بعد المسيس، وقد ذكرت التفصيل في ذلك.
والقدر المعتبر هاهنا تنزيل الرضاع بعد المسيس منزلة الارتداد، والزوج يغرم للصغيرة نصف مسماها.
10036- صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن الكبيرة، لم يخف الحكم، إذا كان الإرضاع بلبان الزوج؛ فإنهن يصرن بناتِه.
وإن كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، نظر: فإن كانت مدخولاً بها، حرمت، وحرمن على الأبد من غير تفصيل؛ فإن الصغائر يصرن ربائبَ امرأة مدخول بها، وتصير الكبيرة أمَّهن.
وإن كان الرضاع بغير لبن الزوج، وكانت الكبيرةُ غيرَ مدخولٍ بها، فهذا القسم يفصّل، فإن أرضعتهن أربعاً أربعاً على ما يتفق من جمعٍ وترتيب، ثم احتُلب اللبنُ وجعل في ثلاثة ظروف، وأوصل الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً من غير ترتيب، فيرتفع نكاحهن.
أما الكبيرة، فتحرم على الأبد؛ لأنها من أمهات النساء، والصغائر لا يحرمن على الأبد؛ لأن الكبيرة غير مدخول بها، فهن ربائب امرأة لم يتفق الدخول بها، ولكن ينفسخ نكاحُهن لثبوت الأُخوّة بينهن في حالة واحدة، والجمع بين الأخوات مستحيل.
ثم يغرَم الزوج نصف المسمى لكل صغيرة، ويسقط مهرُ الكبيرة، كما لو ارتدت قبل الدخول، وهذا حظها في نفسها من عهدة الإرضاع، وتغرم هي على الرأي الظاهر نصفَ مهر مثل كل صغيرة للزوج.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت قبل الدخول بغير لبان الزوج الصغائرَ الثلاث ترتيباً: الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فنقول: أما نكاح الكبيرة، فلا شك في ارتفاعه، وهي محرمة على الأبد، وإنما النظر في الصغائر، فإذا أرضعت الأولى خمساً، انفسخ نكاحها لاجتماعها مع الأم وقد تثبت الأمومة والبنوة من غير ترتيب، فلما أرضعت الثانية، لم ينفسخ نكاح الثانية؛ من جهة أنها لا تحرم على الأبد، والكبيرة أقدمت على إرضاعها بعد انفساخ نكاحها، فلا يحصل الجمع.
فلما أرضعت الثالثة رضاعاً محرِّماً، انفسخ نكاح الثالثة، لا محالة؛ لأنها صارت أختاً للثانية وقد ثبتت الأخوة بينها وبين الثانية في النكاح، والجمع بين الأختين ممتنع. هذا قولنا في الثالثة.
فأما الثانية، ففي ارتفاع النكاح قولان: أصحهما وأقيسهما- أنه لا ينفسخ نكاح الثانية، وعبر الأئمة عن القولين، فقالوا: الأخيرة التي ينفسخ نكاحها بسبب الاجتماع مع المتقدمة تصير مع المقدّمة كالمنكوحتين في عُقدةٍ واحدةٍ أم الأخيرة كالمُدخلة على المتقدمة؟ فعلى القولين: فإن جعلناهما كالمنكوحتين دفعة واحدة، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ نكاحهما جميعاًً، وإن جعلنا الأخيرة كالمُدخلة على الأولى، فينفسخ نكاح الأخيرة فحسب.
توجيه القولين: وجه القول الأصح أن الأُخوّة لا تقبل في ثبوتها الترتيب، ولا يتصور ثبوتها إلا بين شخصين، والأخوّة هي المفسدة، وإذا لم يكن فيها ترتب، وجب القطع بانفساخ النكاح فيهما جميعاً.
ووجه القول الثاني- أن الرضاع تمّ في الأولى، ولم يوجب انفساخاً، ثم الرضاع في الثانية بكماله، لم يتعلق بالأولى منه فعل؛ فكان ترتب الرضاع على الرضاع كترتب النكاح على النكاح.
وهذا ما لا أشتغل بتقريره، وإنما هو تخييلٌ لا حاصل له.
ثم قال الأئمة: مهما فرضنا امرأتين، وقد تمهد في أحدهما سببٌ، ثم جرى في الثانية سبب آخر حصل به جمعٌ محرِّم، فينفسخ نكاح الثانية، وفي انفساخ نكاح الأولى القولان.
10037- واختلف الأصحاب في صورة نذكرها، وهي أن الرجل لو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت أمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ، فقد صارت الصغيرة أختاً للكبيرة؛ وإنما انتظمت الأخوة بينهما؛ لأن الكبيرة بنتُ المرضعة بالنسب، وهذا متقدم متمهد على إرضاع الصغيرة، فاختلف أصحابنا على طريقين: فقال الأكثرون: في انفساخ نكاح الكبيرة قولان، جرياً على القاعدة التي قدمناها؛ فإن البنوة بالنسبة متقدمة، والرضاع الذي تم به الأخوة متأخر، وكان كما لو أرضعت الزوجة الكبيرة صغيرة، ثم أخرى، ثم أرضعت الثالثة، فقد صارت أم الثانية بالرضاع، وتثبت الأخوة بين الثانية والثالثة بسبب تقدم بنوة الرضاع بين الكبيرة وبين الثانية، فلا فرق.
ومن أصحابنا من قطع بأن الكبيرة تحرم قولاً واحداً، إذا أرضعت أمها الصغيرة، لأن البنوة في الكبيرة تثبت لا بجهة الرضاع، فليس في الرضاع ترتب.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطعُ بجراء القولين.
10038- عاد بنا الكلام إلى كبيرة وثلاث صغائر والكبيرة غير مدخول بها، والإرضاع ليس بلبان الزوج، فلو أرضعت واحدةً من الصغائر، ثم أرضعت ثنتين، فأوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهما معاً، فيبطل في هذه الصورة نكاح الصغائر الثلات: أما الصغيرة الأولى، فقد فسد نكاحها بسبب الجمع بين الأم وابنتها، وفسد نكاح الأخريين بحصول الأخوة فيهما معاً برضاعٍ جامع لا ترتب فيه.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت صغيرتين جميعاً، كما صورنا الجمع، ثم أرضعت الثالثة وحدها خمساً، فيرتفع نكاح الصغيرتين الأوليين المجموعتين لعلتين في الجمع: إحداهما- الجمع مع الأم، والثانية- الاجتماع في الأخوة، ولا يبطل نكاح الصغيرة الثالثة؛ فإن رضاعها يجري ونكاحُ الكبيرة زائل، وكذلك نكاح الصغيرتين الأوليين، وليست هي ربيبة امرأة مدخول بها.
ولا يكاد يخفى حكم الغُرم إذا لاح فسادُ النكاح.
10039- صورة أخرى: إذا نكح رجل أربع صغائر، فجاءت أجنبية وأرضعتهن أربعاً أربعاً، ثم أوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً، فيفسد نكاحهن للاجتماع في الأخوة برضاعٍ لا ترتب فيه، والنظر في الجمع والترتيب إلى الرضعة الخامسة.
ولو أرضعت اثنتين معاً، ثم أرضعت الأخريين معاً، فسد نكاحهن لتحقق الجمع بين الأوليين وبين الأخريين.
ولو أرضعتهن على الترتيب، فلا ينفسخ نكاح الأولى لو اقتصرت على إرضاعها، فلما أرضعت الثانية، صارت أختاً للأولى، وانفسخ نكاح الثانية، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فعلى القولين؛ لأن الرضاع قد تم فيهما، فإن جعلنا الثانية كأختٍ تدخل على أختٍ، فينفسخ نكاح الثانية ولا ينفسخ نكاح الأولى، وإن جعلناهما كالمجموعتين في نكاح واحد، بطل نكاحهما بالتدافع، فلما أرضعت الثالثةَ، فإن حكمنا بانفساخ نكاح الأولى والثانية، فلا ينفسخ نكاحُ الثالثةِ الآن؛ فإن الأخوة فيها لا تصادف أُختاً منكوحة؛ إذ قد ارتفع نكاح الرضيعتين قبلهما.
وإن فرعنا على القول الثاني، وهو أن نكاح الأولى لا ينفسخ، فينفسخ نكاح الثالثة؛ فإن الأخوة تثبت بينها وبين الأولى وهي في النكاح، فبطل نكاح الثالثة، ولما أرضعت الرابعة، فنكاح الرابعة ينفسخ لا محالة على القولين؛ فإنها صارت أختَ الأولى، وأختَ الثانية، والثالثةُ على القول الصحيح كانت منكوحة لما تم الرضاع في الرابعة، والأولى كانت منكوحة في القول الثاني لما تم الرضاع في الرابعة، فيفسخ نكاحها على القولين.
وتخرّج من خاتمة الأم: إذا أرضعتهن ترتيباً أن نكاح الأربع ينفسخ آخراً على أصح القولين، وترتيبه أن ينفسخ نكاح الأولى عند تمام الرضاع في الثانية وينفسخ نكاح الثانية لا محالة، ثم ينفسخ نكاح الثالثة عند تمام الرضاع في الرابعة، وينفسخ نكاح الرابعة لا محالة.
وعلى القول الثاني ينفسخ نكاح الثانية، والثالثة، والرابعة، ويبقى نكاح الأولى.
ولو غيرنا الصور في الترتيب والجمع، وصورنا الجمع في ثلاث، ثم إرضاع الرابعة، أو عكس ذلك، لم يخف حكمه، فإذا أرضعت ثلاثاًً جمعاً، انفسخ نكاحهن، فإذا عادت فأرضعت الرابعة، لم ينفسخ نكاحها؛ إذ لا اجتماع لها مع أختٍ.
ولو أرضعت واحدةً، ثم أرضعت ثلاثاً جمعاً: أما الأولى لا ينفسخ نكاحها لو فرض الاقتصار على إرضاعها، وأما الثلاث، فينفسخ نكاحهن، وهل نعود فنقول: ينفسخ نكاح الأولى، فعلى القولين السابقين.
10040- صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من أب وأم، هن أخوات أمه من أبيها وأمها، وأرضعت كل واحدة منهن صغيرة، فلا يحرمن على الزوج؛ فإنهن يصرن بنات خالاته، ولا امتناع في نكاح بنات الخالات.
فلو كانت المسألة بحالها، وقد جرى الإرضاع من الخالات كما صورنا، فجاءت أم أم الزوج وأرضعت الصغيرة الرابعة، فقد صارت هذه خالة الزوج؛ لأنها تصير أخت أمه؛ فتحرم هي، وكما تصير خالة للزوج تصير خالة للصغائر الثلاث اللواتي أرضعتهن الخالات من قبل؛ وذلك لأنها كما صارت أختَ أم الزوج، وصارت لذلك خالةَ الزوج، كذلك صارت أختَ الخالات المرضعات، والخالاتُ المرضعات قد صرن أمهات الصغائر الثلاث، وأختُ الأم خالة، وإذا صارت الرابعة خالةَ الصغائر الثلاث، صارت الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، ولا يجوز الجمع بين الخالة وبنت أختها، ولكن هذا حصل برضاع مترتب، فبطل نكاح الرابعة للخؤلة مع الزوج، والجمع مع بنات الأخوات، وهل يبطل نكاح الصغائر الثلاث؟ فعلى القولين السابقين؛ لأن ذلك حصل برضاع مرتب.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأب والأم ثلاثَ صغائر، فجاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، فإنها تصير أختاً لأم الزوج من أبيها، فتكون خالة للزوج من الأب، وتصير أختاً للخالات المرضعات من جهة الأب؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأب والأم، وتصير الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، كما قدمنا ذلك. أما الرابعة فتحرم، وفي الثلاث القولان المذكوران.
وبمثله لو جاءت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأم فأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة، فتصير الرابعة خالة للزوج من قِبل الأب؛ فإنها أخت أمه من أبيها؛ إذ زوجة أم الأب أرضعتها بلبان أب الأم، ولا تصير الرابعة أختاً للخالات المرضعات؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأم، والرابعة صارت أخت الأم من الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة، وبينهن؛ لأنه لم يجمعهن أبٌ ولا أم، والأخوّة إنما تنتظم إذا انتسب شخصان إلى أب واحد ببنوة الرضاع أو انتسبا إلى أمٍّ واحدة بهذه الجهة، فإذا لم يتحقق انتماء إلى أب ولا إلى أم، فلا أخوّة.
وإذا كان لرجلٍ أخٌ من أبيه، وكان لذلك الأخ أخت من أمه، فأخته من أمه أجنبية من الرجل الأول الذي فرضنا الكلام فيه، وأخت الأخ حيث تحرم لا تحرم لأنها أخت الأخ، وإنما تحرم لأنها بنت الأب أو بنت الأم؛ لأن الأخوّة المحرِّمة حرمت من حيث إنها تفرعت على الأبوة أو على الأمومة، أو عليهما. وهذا واضح.
ولو كانت الخالات الثلاث عن أب، فجئن، وأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت أم أم الزوج، وأرضعت الرابعة؛ فإنها تصير خالة للزوج، كما تقدم، ولا تصير أختاً للخالات المرضعات لما ذكرناه، ووضوح ذلك يغني عن مزيد البسط فيه.
10041- ولو كانت تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث عمات للزوج من أب وأم وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة، فنقول: أما الثلاث؛ فإنهن صرن بنات عمات، فلو وقع الاقتصار عليهن في الإرضاع- فعلى ما مضى- لما ضرّ شيئاً؛ لأنهن صرن بنات عمات، وذلك غير ضائر، فلما أرضعت أمُّ الأب الرابعة، صارت عمةً للزوج؛ لأنها صارت أخت أبيه، فلا شك في فساد نكاحها، وكما صارت عمةً للزوج صارت أختاً للعمّات المرضعات، وصارت الصغائر الثلاث المرتضعات بنات أخوات الرابعة، فيحصل الجمع بين العمة وبين بنات الأخوات، ولكن حصل ذلك برضاع مرتب؛ إذ تم الرضاع في الثلاث الأُوَل، ثم حصل الإرضاع في الرابعة، فتحرم الرابعة بعمومة الزوج، وبعلة الجمع.
وهل تحرم الثلاث الصغائر المتقدمات؟ فعلى القولين الممهدين في أن الأخيرة كالمُدخلة على الأوائل أم هي مع الأوائل كالمجموعات في عقد؟
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا جاءت أم الأب وأرضعت الرابعة بلبان الأب، فالجواب كما تقدم؛ فإن في العمات المرضعات قرابة الأمومة، وقرابة الأبوة جميعاًً، فتحصل الأخوة بأحد الطرفين.
ولو كانت العمات المرضعات من جهة الأب فجاءت أم الأب، فأرضعت الرابعة، لا بلبان أب الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة وبين العمات، وكذلك لو كانت العمات من جهة الأم، فجاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، لم تصر الرابعة أختاً للعمات، ولم تصر المرتضعات بنات أخوات، كما تقدم تصوير ذلك على التقرير التام في مسألة الخالات.
10042- ولو كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات متفرقات، وهن أخت الأم من أبيها وأمها، وأختها من أبيها، وأختها من أمها، وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم الأم وأرضعت الرابعة، فالقرابة التي تحرّم الجمع تثبت بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأم، ولا يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأب ما يُحرِّم الجمع.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاءت زوجة أب الأم، فأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، ثبت النسب المانع من الجمع بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأب، ولم يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأم سببٌ مانع.
وإذا فرضنا إرضاع الثلاث من عمات متفرقات، انتظم مثل ما ذكرناه فيه، إذا جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة لا بلبان الأب، وكذلك إذا جاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، ثم حيث ينتظم السبب المانع، فالرابعة تحرم من كل وجه للعمومة والجمع، وهل يحرم اثنتان من الصغائر الثلاث على ما يقتضيه الترتيب؟ فعلى القولين، وعلى هذا فقِسْ إن شاء الله.
فصل:
قال: "ولو تزوج رجل كبيرتين وصغيرتين... إلى آخره".
10043- إذا نكح الرجل كبيرتين وصغيرتين، فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين على الترتيب، بأن أرضعت الأولى خمساً، ثم أرضعت الثانية خمساً، ثم جاءت الكبيرة الأخرى وأرضعت الصغيرتين على ترتيب إرضاع الكبيرة الأولى، فإن كان الإرضاع بلبان الزوج، فقد حرمت الكبيرتان والصغيرتان على الأبد، غير أن الكبيرة الأولى لما أرضعت الصغيرة الأولى، فسد نكاحها ونكاحُ تلك الصغيرة؛ فإنها صارت بنت الزوج وصارت الكبيرة من أمهات النساء، فلما أرضعت الصغيرة الثانية، فسد نكاحها أيضاًً، لأنها تصير بنت الزوج، فقد حصل فساد نكاح الصغيرتين بإرضاع الكبيرة الأولى.
وحكم الغُرم أن الكبيرة الأولى مدخول بها، وإذا كانت ذاتَ لبنٍ من الزوجِ، واللبن دَرّ في النكاح، فلا يسقط مهرها بعد المسيس، كالردة بعد المسيس، وتغْرمَ نصفَ مهر مثل كل صغيرة على الرأي الظاهر.
والكبيرة الثانية لا تغرم شيئاًً، ولا يسقط من مهرها شيء؛ لأنها لم تتسبب إلى إفساد نكاح واحدة من الصغيرتين، وإنما أفسدت نكاح نفسها بعد المسيس.
وإن لم يكن إرضاع الكبيرتين بلبان الزوج، فلا يخلو إما أن كان دخل بهما أو لم يكن دخل بهما، فإن كان دخل بهما، حَرُمْن كيف فرض الأمر، فإن الصغيرتين تصيران من ربائب امرأة مدخولٍ بها، فتثبت الحرمة على الأبد بسبب الصهر، وتصير الكبيرتان من أمهات النساء في كل وجه.
وإن لم يكن الإرضاع بلبان الزوج، وما كان دخل بالكبيرتين وجرى الإرضاع في الصغيرتين من كل كبيرة: أما الكبيرتان، فتحرمان على الأبد، لأنهما من أمهات الزوجات.
وأما الصغيرتان، فلا تثبت فيهما حرمةٌ على التأبيد، وإنما يلحقهما الخللُ من جهة الجمع.
فنقول: إذا أرضعت الأولى إحدى الصغيرتين أَكْملَ الإرضاع، ثم أرضعت الثانية، فيرتفع نكاح الأولى للاجتماع مع الأم المرضعة، وأما الثانية، فلا يرتفع نكاحها؛ لأنها لا تجامع أُمَّاً في النكاح، وقد تقدم فساد نكاح الكبيرة الأولى. وأما الكبيرة الثانية، فإن أرضعت الصغيرة الأولى على الترتيب الأول، حرمت الكبيرة في نفسها على الأبد، لأنها من أمهات النساء، ولا نظر إلى التاريخ، للأصل الذي مهدناه من قبل، فإذا أرضعت الثانية، لم ينفسخ أيضاًً نكاح الثانية؛ لأنه لم يتحقق فيها محرمية ولا جمع.
ولو ابتدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الثانية على العكس من ترتيب الكبيرة الأولى، فيبطل نكاح الصغيرة الثانية للاجتماع مع الأم.
ثم حكم الغرم لا يخفى، فيسقط مهر كل كبيرة بجريان الإرضاع قبل المسيس، ثم النظر في فساد نكاح الصغيرتين، فكل كبيرة تسبّبت إلى إفساد نكاح صغيرة التزمت نصف مهر مثلها-على الرأي الظاهر- لزوجها، والزوج يلتزم نصف المسمى للصغيرة التي فسد نكاحها، فإنا لا نحيل على ارتضاع الصغيرة أمراً، كما تقدم.
فصل:
قال: "ولو كانت للكبيرة ثلاث بنات مراضع من نسب أو رضاع... إلى آخره".
10044- إذا نكح الرجل كبيرة وثلاثَ صغائرَ، وكان للكبيرة ثلاث بنات مراضع فجئن، وأرضعن الصغائر، نُظر: فإن كانت الكبيرة مدخولاً بها، فيفسد نكاح الأربع في كل وجه؛ لأن الكبيرة تصير جدة الصغائر، فهي من أمهات النساء، وتصير الصغائر ربائبَ مدخولٍ بها؛ فإن الحافدة ربيبةٌ كالبنت، وإذا حرمن على الأبد-كيف فرض الرضاع على ترتيب أو جمع- فالتفصيل في الغرم.
فإن أرضعن ترتيباً، فالتي أرضعت الأولى تلتزم نصف مهر مثل الصغيرة الأولى لزوجها، وتلتزم تمام مهر مثل أمها؛ فإنها أفسدت نكاحها بعد المسيس، هذا هو المذهب الظاهر وعليه التفريع.
ولسنا نفرع على ما حكاه صاحب التقريب عن المزني في غير المختصر، وقيل: نقل المزني ذلك القولَ في المنثور، فلا ينبغي أن يكون إليه عَوْدٌ في كل مسألة.
فلما أرضعت البنتَ الثانيةَ، ثم البنتَ الثالثة، فسد نكاح الصغيرتين الأخريين للمحرمية، واختصت كل مرضعة بغرامة نصف مهر المثل للتي أرضعتها؛ وتختص مرضعة الأولى بغرامة مهر مثل الكبيرة؛ لأنها المفسدة لنكاحها.
10045- ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فجاءت بناتها المراضع وأرضعن الصغائر، فهذا يُفرض على الجمع والترتيب:
فإن جمعن الرضاع المحرِّم في الصغائر وأوقعنه معاً-وذلك يفرض في الرضعة الخامسة؛ فإنها لا حكم للرضعات قبلها- فإذا حصل الرضاع على الجمع، فيفسد نكاح الصغائر بسبب الجمع بينهن وبين الكبيرة التي صارت جدة، والجدةُ أمٌّ في هذه الأبواب، ثم تنفرد كل بنت بغرامة نصف مهر التي أرضعتها، ويشتركن في غرامة مهر الكبيرة؛ فإن أفعالهن لم تترتب، وقد صدر من كل واحدة ما لو انفردت، لكان ذلك محرِّماً للكبيرة، فالغرم الواجب بسبب الكبيرة مفضوضٌ عليهن.
هذا إذا حلبن ألبانهن وحصَّلن الرضعة الخامسة معاً، وكذلك لو ألقمنهن الثديَ، وتحقق وصول اللبن إلى الأجواف معاً.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها وجرى الإرضاع من البنات على ترتيب، فإذا أرضعت واحدةٌ واحدة إرضاعاً تاماً، بطل بذلك نكاح الكبيرة والصغيرة للجمع والمحرمية: أما المحرمية، فتحصل في الكبيرة، لأنها تصير من أمهات النساء، وأما نكاح الصغيرة فيبطل بالجمع، ولا تثبت المحرمية.
فإذا جاءت البنت الثانية، وأرضعت صغيرة، ثم أرضعت الثالثةُ الثالثةَ، لم يبطل نكاحهما، إذ لا محرمية، والكبيرةُ غيرُ مدخول بها، ولا جمع أيضاً، ولا يثبت بين الصغيرتين سببٌ يُحرِّم الجمع؛ إذ تصير كل واحدة بنت خالة الأخرى، والجمع بين بنات الخالات لا يمتنع.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فأرضعت بنتان صغيرتين جمعاً، كما صورنا الجمع، وأرضعت الثالثةُ الثالثةَ من بعدُ، أما نكاح الكبيرة، فيرتفع للمحرمية، لا شك فيه، ويرتفع نكاح الصغيرتين للجمع مع الأم.
وحكم الغرم أن كل مرضعة منهما تختص بغرامة نصف مهر مثل التي أرضعتها، ويشتركان في غرامة نصف مهر مثل الكبيرة؛ لأنهما اشتركتا في إفساد نكاحها. ولما جاءت البنت الثالثة، وأرضعت الصغيرة الثالثة، فلا أثر لإرضاعها؛ فإنها لم تثبت في الصغيرة الثالثة محرمية؛ إذ لا دخول بالكبيرة، ولم يتحقق فيها جمع؛ فإن نكاح الكبيرة قد تقدم ارتفاعه.
وإن صورنا الأمر على الضد من ذلك، فأرضعت بنتٌ صغيرةً، وجمعت بنتان الرضعة الخامسة للصغريين الأخريين، فيرتفع نكاح الكبيرة بالمحرمية، ونكاح الصغيرة الأولى بالجمع، ولا يؤثر إرضاع البنتين الأخريين؛ فإنه لا يُثبتُ محرميةً ولا جمعاً، وهذه الصورة في نهاية الوضوح، وإنما نوردها لاشتمال (السواد) عليها.
10046- ثم ذكر ابن الحداد صوراً في الرضاع وما ينتظم منه من الحرمات ولست أرى ذكر واحدة منها لوضوحها، ولولا التزامنا ذكر مسائل السواد، لما أوردنا معظم الصور التي ذكرناها، اكتفاء بالأصول الممهدة، ولكن ذكر ابن الحداد فروعاً تتعلق بالمغارم مستفادة، منها أنه قال:
إذا كان للرجل ثلاث نسوة مرضعات وصغيرة، فأرضعت إحداهن الرضيعة رضعتين، وكذلك الأخرى أرضعتها رضعتين، وأرضعت الكبيرةُ الثالثةُ الرضعةَ الخامسةَ، فلا تصير واحدةٌ من الكبيرات المراضع أماً؛ فإن واحدة منهن لم تُكمل الرضعاتِ الخمسَ.
ولكنا نُصوِّر لبانَهن من الزوج ونقول: هل يصير الزوج أباً؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، سيأتي شرحه بعد هذا-إن شاء الله- أحد الوجهين- أنه يصير أباً لانتساب خمس رضعات إليه.
والثاني: أنه لا يصير أباً، لأن الأبوة تبعُ الأمومة وسيأتي هذا.
فليقع التفريع على ثبوت الأبوة، وتحرم الصغيرة على ذلك؛ لأنها صارت بنت الزوج على الوجه الذي عليه التفريع.
والكلام في الغرم بعد ذلك، فنقول: لم يتعلق بالرضعات الأربع الصادرة من الكبيرتين الأوليين إفساد النكاح، وإنما تم الرضاع بالخامسة الصادرة من الكبيرة الثالثة، فالذي رأيته منصوصاً للأصحاب القطعُ بأن الكبيرةَ الثالثةَ التي هي صاحبة الرضعة الخامسة تختص بالغرم؛ فإنها المفسدةُ.
ولا شك أن نكاح واحدة من الكبيرات لا ينفسخ؛ فإن الأمومة لم تثبت لواحدة.
وليس يبعد عندنا عن الاحتمال تشريكُ الكبيرتين الأوليين؛ فإن الرضعة الخامسة إنما وقعت خامسةً لتقدم أربع قبلها، ولا حاصل لقول من يقول: الحرمة بالخامسة، قالت عائشة: "فنسخن بخمس يحرّمن".
وهذا يضاهي مسألةً للأصحاب سيأتي ذكرها في مسائل أسباب الضمان من كتاب الديات، وهي أن من شحن سفينة شِحْنةً على اعتدال، فجاء آخر ووضع فيها عِدْلاً، رسبت السفينة بسببه وغرقت، فكم يغرم هذا الواضع؟ فيه تفصيل، وقد ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى التوزيع، وهذا الذي ذكرناه في الرضاع احتمال، يعتضد برجوع الشهود؛ فإنه لو شهد أربعة على الطلاق، وجرى الحكم، ثم رجعوا عن الشهادات واحداً واحداً، فالغرم على جميعهم، وإن كان انتقاص العدد المشروط يحصل برجوع الثالث، والمذهب ما نقلناه، وهذا احتمال أبديناه، وهو دافعٌ لا بأس به.
10047- ولو كانت المسألة بحالها: ثلاث كبيرات وصغيرة، فأرضعت واحدةٌ الصغيرةَ رضعة، وأرضعت الثانيةُ رضعة، ثم احتلبتا لبنيهما، واحتلبت الكبيرة الثالثة لبنها، وجمعن هذه الألبان في ظرف، وأرضعن الصغيرة، فقد حصل بما صورناه خمسُ رضعات؛ فإن الأوليين قدمتا رضعتين، ولما جمعن ألبانهن، فكأنَّ كل واحدة أرضعت رضعة، فيحصل ثلاثُ رضعات بهذا اللبن المجموع، والتفريع على تحريم الصغيرة، وثبوت الأبوّة.
وغرضنا الكلام في الغرم، ولا شك أنهن يشتركن في الغرم بسبب الاشتراك في الرضعة الأخيرة، وذكر الشيخ أبو علي وجهين في كيفية فضّ الغرم عليهن:
أحدهما: أن الغرم بينهن أثلاثاً؛ فإنهن اشتركن آخراً عند حصول التحريم، فالوجه فضُّ الغرم عليهن أثلاثاًً.
والوجه الثاني- أنا نوجب على كل واحدة من الأُوليين خُمسي الغرم، ونوجب على الثالثة خُمسَ الغرم، وحقيقة هذا الاختلاف يرجع إلى أنا هل نُدرج ما تقدم من الرضعتين من الكبيرتين في الحساب الذي عليه نَفُضُّ الغرمَ، فمن أصحابنا من لم يدرجهما، ولم يعتبرهما، ونظر إلى الاشتراك في الرضعة الخامسة.
ومن أصحابنا من أدرج الرضعتين السابقتين، وقال: إنما لا تعتبر الرضعات السابقة إذا انفردت الثالثة بالرضعة الخامسة على رأي الأصحاب، فأما إذا وجد من الأُوليين-وقد صدرت منهما الرضعتان- مشاركةٌ في الخامسة، فنُدخل ما سبق في الاعتبار، وهذا كما إذا انفردت بخمس رضعات محرمات، فالغرم محال على الرضعات الخمس.
وما ذكرناه تفريع على أن صاحبة الرضعة الخامسة إذا انفردت، انفردت بالغرم.
10048- صورة أخرى لابن الحداد في المغارم: رجل تحته كبيرتان وصغيرة، وكانتا ذات لبن من غير الزوج، وما دخل الزوج بهما، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربعَ رضعات، فلا يتعلق بما صدر منهما حرمة؛ لأن واحدة لم تكمل الرضاع، فتصير أمّاً، وليس اللبن من الزوج، حتى يختلف الأصحاب في ثبوت الأبوة بخمس رضعات ملفقات من رضاعهما، فلو احتلبتا ألبانهما، فأوجرتا الصغيرة فلا تثبت الحرمة المؤبدة في حق الصغيرة؛ لأنا فرضنا المسألة فيه إذا لم يدخل الزوج بالكبيرتين، فليست ربيبةَ مدخولٍ بها، ولكن يبطل نكاح الصغيرة بسبب الجمع مع الأم.
ثم تشترك الكبيرتان في غرامة نصف مهر مثل الصغيرة للزوج.
وأما الكبيرتان ففيهما نظر يبين الغرض فيه بعد التنبُّه لما قدمناه من أن الكبيرة إذا أرضعت بنفسها، وفسد نكاحُها ونكاحُ الصغيرة، فهي لا تغرم بسبب فساد نكاحها في نفسها للزوج شيئاً، ولكن إن كانت غير ممسوسة، سقط مهرُها، فهذا أثر إفسادها نكاح نفسها، وإن كانت ممسوسة، فالرأي الظاهر أنه لا يسقط من مهرها شيء لاستيفاء الزوج مقابل المهر.
فإذا تجدد العهد بهذا، فكل واحدة من الكبيرتين ساعية في إفساد نكاح نفسها، ويرتفع نكاح صاحبتها أيضاً، فهل تغرم إحداهما للزوج مهر صاحبتها الكبيرة، أم كيف السبيل فيه؟ قال الشيخ أبو علي: اجتماعهما على الرضعة الخامسة، واشتراكهما فيها يوجب إحالة انفساخ نكاح كل واحدة منهما عليهما جميعاًً، هذا موجَب الاشتراك.
فإذا كان كذلك فسَعْيُ كل واحدة في فسخ نكاح نفسها يوجب إسقاط المسمى، وسعي الأخرى في إفساد نكاحها يوجب الغرم للزوج، فالوجه أن نوفر على السببين موجَبَهما، ونقول: المسألة مفروضة فيه إذا لم تكونا ممسوستين، وقد تحقق الاشتراك، كما ذكرنا، فنسقط نصف المهر المسمى بسبب ارتفاع النكاح قبل المسيس، ويقع التصرف في النصف الباقي، فيرجع من النصف الباقي نصف وهو الربع، وتغرم كل واحدة لزوجها ربع مثل صاحبتها الكبيرة، فتستحق كل واحدة ربع المهر المسمى لها، وتغرم ربع مهر مثل صاحبتها.
قال الشيخ: هذا مما قلتُه تخريجاً، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، وهذا قد نقله شيخي عن القفال على هذا الوجه بعينه، وشبَّه تدافعَ النكاحين بين الكبيرتين باصطدام الفارسين، وذلك يقتضي التشطير، كما سيأتي مقرراً.
10049- قلت: هذا الذي ذكره الشيخ حسنٌ، ولكن لا يقف عليه الطالب إلا بالاطلاع على التفصيل، فإن أحاط به الشيخ ولم يذكره، فقد أخلّ، وإن لم يحط به، فإطلاقه على هذا الوجه خطأ صريح.
والغرض من هذا الفصل يبين بتقديم أصلٍ بيّنٍ، وهو أن الكبيرة لو أرضعت الصغيرةَ، وهما تحت زوج أربع رضعات، ثم احتلبت اللبن في ظرف، فتقدم إلى الظرف إنسان وأوجره الصبية، فالغرم على الموجِر لا على صاحبة اللبن.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى التفصيل المقصود في المسألة، في مسألة الكبيرتين والصغيرة، فإذا أرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربع رضعات، نظر بعد ذلك، فإن احتلبت كلُّ واحدة لبن نفسها في ظرف، ثم أوجرتا الصبية بحيث أوصلتا اللبن إلى جوفها من غير خلط، وأقلت كل واحدة لبن نفسها، فيجب القطع في هذه الصورة بأن كل واحدة من الكبيرتين لا تغرم شيئاً من مهر الكبيرة الثانية؛ فإن كل واحدة إنما فسد نكاحها بثبوت الأمومة، وأمومة كل واحدة تثبت بإيجارها الرضعة الخامسة، ولو انفردت إحداهما بإرضاع الصغيرة خمساً بلبان غير الزوج، فلا تحرم الكبيرة الأخرى، ولا أثر إذاً لواحدة منهما في نكاح الأخرى في الصورة التي ذكرناها، فلا اشتراك، وكلُّ واحدة منفردة باثبات أمومة نفسها، فيسقط مهر كل واحدة منهما، ولا تغرم إحداهما للزوج شيئاً من مهر الكبيرة الأخرى.
وكذلك لو ألقمتا ثديهما الصبية في الكرة الخامسة، وتحقق وصول اللبن إلى الجوف معاً، فالجواب كما ذكرنا، وإن كنا نتحقق أن اللبنين كانا يختلطان في فُغُرات الصبي، ثم إن كانت تجرعه مختلطاً، فلا نظر إلى الاختلاط، والتعليل كما تقدم.
ولو احتلبتا لبنيهما في ظرف واحتملت إحداهما الظرفَ وأوجرت الصبية، فالجواب أن الموجرة يسقط مهرها، وتغرَم نصف مهر مثل الكبيرة الأخرى، لما مهدتُه قبلُ من أن الغرم على الموجِر.
ولو اشتركتا في حمل الظرف وفيه اللبنان، وأوجرتا، فالاشتراك يأتي من قِبَل أن هذه حملت لبن تيك وتيك حملت لبن هذه، فيظهر الاشتراك؛ فإن لبن كل واحدة منهما يضاف حمله إليهما، وإحالة الغرم على الحمل وتعاطي الإيجار، فيتجه على هذا في هذه الصورة ما قاله الشيخ، ولا يتجه غيره. هذا حقيقة المسألة ومنتهاها.
فصل:
10050- إذا نكح الرجل صغيرة وكانت له خمسٌ من أمهات الأولاد، وذوات ألبان منه، أو كانت له زوجاتٌ مطلَّقات ذواتُ ألبان منه، والغرض تصوير مرضعاتٍ خمسٍ بألبان منتسبة إلى الرجل، فإذا أرضعت كل واحدة منهن الصغيرةَ رضعة، فحصلت خمسُ رضعات من خمس مراضع، فلا شك أن واحدة منهن لا تصير أُمّاً؛ إذ لم يصدر من كل واحدة إلا رضعةٌُ واحدة، ولكن هل تثبت الأبوّة للرجل الدي انتساب الألبان إليه؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أن الأبوة لا تثبت؛ إذ هي تبعُ الأمومة ولم تثبت الأمومة، فلا تثبت الأبوّة. والوجه الثاني- أن الأبوة تثبت لتعدد الرضعات، والألبان منتسبة إلى الرجل، فيجب ثبوت الأبوة، وإن لم تثبت الأمومة.
فلو كان لزوج الصغيرة خمس بنات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فلا تصير واحدة منهن أمّاً، وهل تثبت الجدودة للزوج؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك لو كان للزوج خمس أخوات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فالمسألة على الخلاف.
وقد قال الأئمة: إذا اتحد الجنس في المراضع، فكن أمهات، أو زوجات= والزوجات مع أمهات الأولاد في حكم الجنس الواحد؛ فإن النظر إلى انتساب الولد- أو كن بنات الزوج، أو أخواته، فالخلاف في كل حال على نسق واحد، من غير ترتيب.
والذي أراه أن الألبان المنتسبة إلى الزوج أَوْلى الصور بحصول الأبوة؛ لحقيقة الانتساب، حتى كأن الزوج هو المرضع، وهذا المعنى لا يتحقق والمراضع بنات الزوج أو أخواته؛ فإن الألبان لا تنسب إلى الزوج، ولم يوجد إلا صَدَرُ خمس رضعات من بنات شخصٍ واحد، فكأنهن في وجه كبنت واحدة في حق هذا الزوج.
وهذا تكلف، والترتيب يحسن بدون هذا، فلنقل: إذا أرضعت الزوجات وأمهات الأولاد رضعة رضعة، ففيه الخلاف، ولئن أرضعت خمسُ بنات، فهذا يترتب على المسألة الأولى، وهذه الصورة أولى بأن لا تثبت الحرمة فيها، والفرق ما نبهنا عليه. وإذا كانت المراضع أخوات، فانتسابهن ليس إلى الزوج، وإنما ينتسبن إلى أب الزوج فيجري مع أب الزوج الخلاف الذي جرى في بنات الزوج من غير ترتيب.
ثم إذا ثبتت الحرمة في حق أب الزوج تعدت إلى الزوج، فمسألة الأخوات كمسألة البنات، ولكن بَعْد فَهْم ما نبهنا عليه.
10051- ولو أرضعت الصغيرةَ خمسُ مراضع من جهات مختلفة وكانت كل واحدة لو استتمت الرضاع خمساً، لحرمت الصغيرة، فإذا أرضعت الصغيرةَ رضعةً زوجةٌ، وبنتٌ، وأمٌّ للزوج، وأختٌ، وجدةٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الصغيرة هل تحرم على الزوج؟ والوجه عندنا ألا تحرم؛ فإنه ليس ينتظم من اجتماعهن جهةٌ مسماة في القرابة؛ فإنه لا تثبت لواحدة منهن حرمة في نفسها، ولا يتأتَّى نسبة الجهات المختلفات إلى أصلٍ، فتعين لذلك ترتيب الخلاف في هذه المسألة على آخر مسألة ذكرناها، ورأيناها مرتبة على ما قبلها.
والفارق ما أشرنا إليه من أن الجهات إذا اختلفت، لم يتسق عن مجموعها جهةٌ معلومة مُقتضية للحرمة، وإذا اتحدت الجهة، انتظمت العبارة، واستدّت النسبة.
فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه التحريم؟ قلنا: كل واحدة من اللواتي ذكرناهن، لو استتمت الرضعات الخمس، لثبتت الحرمة، وفسد نكاح الصغيرة، فإذا وجدت من كل واحدة منهن رضعة، قدرنا الرضعات الخمس على الوجه الذي نتكلف توجيهَه مقتضية حرمةَ قرابةٍ، لسنا نسميها، ولا ننسبها إلى جهة ولا نَعْزيها، وليس الغرض إثباتَ الأسماء، ولكن عدد الرضعات من نسوة لو استكملت كل واحدة الرضاع، لثبتت الحرمة، وهذا من هذا الوجه يمكن تقريره.
10052- وذكر صاحب التلخيص في كتابه مسألة أجمع الأحاب على تغليطه فيها، وذلك أنه قال: لو نكح الرجل صغيرةً، فأرضعتها ثلاثُ بناتٍ للزوج مراضعَ رضعةً رضعة، ثم جاءت عمةٌ للزوج وخالةٌ، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، قال: في تحريم الرضيعة وجهان، وهذا مما لا يخفى غلطه فيها؛ لأن العمة لو استكملت الرضاع، لم يتعلق به فساد نكاح الصغيرة، وكذلك الخالة.
وإنما يتجه التحريم على البعد إذا صدرت الرضعات من نسوة لو استكملت كلُّ واحدة منهن العددَ، لفسد النكاح، وإرضاعُ العمة والخالة لا أثر له، وهو بمثابة ما لو أرضعت الصغيرةَ ثلاثُ بنات للزوج، ثم جاءت أجنبيتان، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، ولست أدري كيف يقع لمثل هذا الرجل المرموق مثلُ هذا الغلط، والذي يتفق وقوعه للأكبر الجوابُ على مذهب بعض العلماء على حسبان أنه جواب صاحب المذهب، ولا يبعد أن يميل النظر من قياس إلى قياس، فأما العمة والخالة، فلا أثر لإرضاعهما بإجماع الأمة، وليس هذا مما يُحمل الغلطُ فيه على زلَّة الفكر إذا اضطر إلى المضايق، فإن الحكم على خلاف ما ذكره مرتَجلٌ بأوائل الفهم، والله أعلم.
10053- ومن بقية الكلام في هذه المسألة أنه إذا أرضعت الصغيرةَ خمسُ بنات للزوج، فإن وقعت الرضعات متفرقات في أزمنة يتخللها فصول، بحيث لو فرض أمثالها والمرضعة واحدة، لكانت رضعات، فالجواب في هذا ما قدمناه، وخلاف الأصحاب على ما وصفناه.
وإن توالت الرضعات منهن في أزمنة متواصلة والارتضاع من الصبية دائم، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: النظر إلى المرضعات، وهن خمس، فالرضعات خمس، ولتعدد الأشخاص أثرٌ في الحكم بتعدد ما يصدر منهم، كما للاتحاد أثرٌ في الإيجار.
هذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا تواصلت الأزمنة، لم يثبت العدد وحكمُه.
فإن فرعنا على الوجه الأظهر، فالكلام كما تقدم.
وإن فرعنا على أن ما صدر منهن لا يثبت له حكم العدد، فلو أرضعت واحدة منهن الصغيرة أربعَ رضعات بعد ما تقدم منها، فهل تثبت الحرمة؟ فعلى وجهين؟ أحدهما- أنها لا تثبت؛ فإنا إذا لم نحكم بعدد الرضعات، فكأن الصادر منهن في حكم الرضعة، وهي مفضوضة على جماعتهن تقديراً، ويلزم من ذلك نسبة بعض رضعة إلى كل واحدة، والواحد لا بعض له، فالوجه إحباط تلك الرضعات، والمصيرُ إلى أنها وإن وقعت كأنها لم تقع، وكذلك لو تكررت الرضعات منهن على هذه الصفة مراراً عدة، فالجواب كما قدمنا ذكره.
هذا وجه وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صورة تقدمت من كلام العراقيين.
والوجه الثاني- أن الواحدة منهن إذا أرضعت أربعاً بعد ما جرى-بينهن على الجمعِ ما جرى، فنحكم بثبات الحرمة، لأنها أرضعت رضيعةً في الحولين خمساً، ومثل هذا لا سبيل إلى درائه بالوساوس، والتقديرات.
وهذا هو الذي لا ينقدح غيره.
فإن قيل: فإذا كنا نحتسب ما صدر من كل واحدة رضعة، فقد تعدّدت الرضعات. قلنا: نعم، هو كذلك، ولهذا كان الأصح أن الصادر منهن رضعات، ولكن يجوز أن يقال على الوجه الضعيف: هن بمثابة بنت واحدة تُرضع في دفعة لبناً كثيراً، فإذا رُدِدنا إلى اعتبار كل واحدة في نفسها، ردَّدْنا النظر إلى فعلها وإرضاعها.
هذا منتهى القول في هذا الفصل.
10054- ثم أعاد المزني فصولاً ذكرناها في مقدمات الأصول الممهدة: منها أنه قال: لو نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة، فقد صارت الكبيرة والصغيرة أختين، وهذه المسألة التي اختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قطع القول بانفساخ نكاح الكبيرة والصغيرة، ومنهم من أفسد نكاح الصغيرة وخرّج الكبيرة على قولين.
ولو أرضعت جدةُ الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاح الصغيرة وصارت خالةَ الكبيرة والكبيرةُ بنت أختها والطريقتان جاريتان في الكبيرة، كما قدمنا، ولا حاجة إلى شرح ذلك.
وقد انتهى الكلام إلى هذا المنتهى.
وذكر بعده ما قدمنا ذكره من امتياز الرضاع عن النسب في مسائل تتعلق بالصهر وقد قررنا ذلك عند قوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".